البحث عن الرواية

هل سبق لك قراءة



البارون الأحمر

البارون الأحمر، لقب لأسطورة الطيران، فى الحرب العالمية الأولى، وهو أيضاً لقب زعيم منظمة جديدة، راوده الحلم نفسه، الذى عجز عن تحقيقه كل من سعى إليه، عبر التاريخ ...

حلم السيطرة على العالم ....

لم تكن مهمة رسمية ل(أدهم)، ولكنه وجد نفسه فجأة يواجه منظمة رهيبة، دون سلاح واحد، سوى مهارات اكتسبها، منذ نعومة اظفاره .....

كيف يمكن لرجل أعزل، أن يواجه جيشاً وحشيا، وسط صحراء قاحلة ؟!..

كيف تكون المواجهة ؟!.. وإلى ماذا ينتهى الصراع ؟!..
وكيف ؟!..

اقرأ التفاصيل المثيرة، وتساءل، من سيربح في النهاية، (رجل المستحيل) أم (البارون الأحمر) !!
______________________________________________

الفصل الأول : نيران الصحراء


توسَّطت الشمس كبد السماء، فى ذلك اليوم شديد الحرارة، وخاصة فى تلك البقعة من صحراء (المكسيك) الجبلية، التى تمتد رمالها إلى مدى البصر، وتحيط بها سلاسل جبلية شاهقة، تعكس المزيد من حرارة الشمس، فتجعل المكان أشبه ببحر من النيران، لم تحتمله حتى حيوانات الصحراء، فاختفت فى جحورها، فى انتظار هبوط الليل، الذى يحيل المناخ، فى هذه البقعة من الأرض، إلى برد لطيف، يطيب لها فيه الخروج، والسعى خلف طعامها وشرابها ...
وتحت ذلك القيظ المميت، أقام بعضهم خيمة كبيرة، بدت بلونها الأحمر الدموى، أشبه ببقعة غير متناسقة ، مع ذلك اللون الأصفر، الذى يكسو كل ما حولها تقريباً...
وتحت منتصف هذه الخيمة، استقر مقعد ضخم، أشبه بعرش ملكى، جلس فوقه رجل قوى البنية، رياضى القوام، يرتدى قميصاً مزركشاً، يناسب أحد الشواطئ الفاخرة، وأقام بعضهم من حوله نظام تهوية حديث، يستمد طاقته من عربة توليد قوى، حوًَّلت خيمته الحمراء، إلى منتجع سياحى، فى قلب الصحراء...
وعلى بعد امتار من الخيمة، انشغل فريق من رجاله، فى صنع حفرة عميقة، بعمق ستة أمتار، تناسب ذلك التابوت المعدنى الثقيل، المستقر إلى جوارها ...
وعلى بعد متر واحد من ذلك التابوت، سقط رجل متين البنيان على ركبتيه، محاطاً بأربعة رجال أشدًَّاء، يصوًَّب كل منهم مدفعه الآلى إلى رأسه ...
كان من الواضح ان الرجل قد تم تخديره بوسيلة ما، إذ كانت عيناه نصف مسبلتين، ورأسه يجاهد للاستقرار فوق ركبتيه، وهو مكمم الفم، بشريط لاصق قوى، ومقيًَّد المعصمين خلف ظهره، بأغلال فولاذية متينة، وكاحلاه مربوطان بمثلها ...
وفى ثقة شامتة متغطرسة، ألقى الجالس على ذلك العرش الصحراوى نظرة ساخرة، على الرجل المقيًَّد ، والتقط من جواره صورة كبيرة، نقل بصره لحظات، بينها وبين وجه أسيره وكأنما يتيقن من هويته، قبل أن يعيد الصورة إلى جواره ، قائلاً: 
- أظنك لم تتوقع أبداً أن تنتهى حياتك الحافلة على هذا النحو ، يا سنيور (صاندو).
رفع الرجل عينيه المتخاذلتين إليه، وكمامته المتينة تمنعه من الرد، فتابع الرجل فى انتعاظ :
- الواقع أن تاريخك يبهرنى، منذ فترة ليست بالقصيرة، وملفك الضخم، الذى أرسلته إلًَّى صديقتى العزيزة (سونيا جراهام) زادنى انبهاراً بك، خاصة وانك رجل المخابرات الوحيد، وربما عبر التاريخ ، الذى استطاع أن يهزم كل أجهزة المخابرات العالمية تقريباً.
ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة ظافرة، وهو يميل إلى الامام ، مكملاً:
- لست ادرى ، أكانت هذه براعة منك، أم سخافة منهم .
قالها، وأطلق ضحكة عالية متغطرسة ، قبل أن يلتقط من جواره سيجاراً كوبياً فاخراً، أسرع أحد رجاله يشعله له، لينفث هو دخانه فى استمتاع، قبل أن يتابع :
- والمدهش أنهم قد أعلنوا وفاتك أكثر من مرة، وتصوًَّروا فى كل مرة أنهم قد تخلًَّصوا من أكبر شوكة فى ظهورهم ، ولكنك كنت تعود إلى الظهور ، وكأنك تمتلك فى أعماقك الأرواح التسعة ، لأى قط مصرى 
هزًَّ كتفيه، وعاد ينفث دخان سيجاره، ثم قال:
- من الواضح انهم، وعلى الرغم من شدة معرفتهم بك، لم يقدًَّروك حق قدرك يا رجل .
انعقد حاجباه عند هذه النقطة، واستعاد غضب ذاكرة قريبة، وهو يتابع :
- ودعنى أعترف بأنك قد جشمتنا الكثير، خلال ساعات الصراع السابقة ، وأننى قد خسرت بسببك ما يقرب من أربعين ، من أفضل رجالى .
حاول الرجل جاهداً أن يرفع عينيه إليه، ولكن ذلك المخدًَّر القوى كان يسرى فى عروقه، ويمنعه من اتخاذ رد فعل مناسب .
ولقد لاحظ الجالس على عرش الصحراء هذا، فابتسم فى تلذذًَّ ، وقال ، وهو يلًَّوح بيده الممسكة بالسيجار :
- ولكن القتال مع اجهزة مخابرات شئ، ومع البارون الأحمر شئ آخر .
نطق الأسم الذى عرف به، فى دهاليز عالم الجريمة المنظمة، والجاسوسية الحرة، فى زهو واضح ، مع ابتسامة مغرورة، قبل أن يتابع :
- لقد أدركت منذ فترة، أن العالم كله صار تحكمه التكنولوجيا، منذ عقدين من الزمان على الأقل، وانه على من يرغب فى ان يتسيًَّد هذا العالم، أن يمتلك، ليس أحدث التكنولوجيا فحسب، ولكن تكنولوجيا تسبق الآخرين بخطوتين على الأقل .
ثم أشار بسيجاره إلى الرجل المقيًَّد ، مضيفاً :
- ولعلك أدركت هذا بنفسك .
التقط نفساً عميقاً من سيجاره، ونفثه فى بطء واستمتاع، ثم ارتشف رشفة من العصير المثلج إلى جواره، ثم أضاف :
- كنا وحدنا نملك الأسلحة ، فى هذه المواجهة، ولم يكن باستطاعتك، مهما فعلت، ان تمتلكها ... بل لا يستطيع رجالى انفسهم ان يستبدلوا أسلحتهم ببعضها البعض ؛ لأن كل سلاح يستحيل ان يعمل، إلا ببصمة صاحبه، وبدونها ، لن يطلق رصاصة واحدة .
ثم عاد يطلق ضحكته المتغطرسة، مضيفاً:
- ولقد أدركت هذا بنفسك أيضاً.
بدت من الرجل حركة، تشف عن محاولته التخلًَّص من قيوده، فابتسم البارون الأحمر فى سخرية ، وقال:
- أنصحك ألا تحاول ، فحتى تلك القيود ، تحكمها التكنولوجيا ...إنها ستزداد إحكاماً ، حتى ولو غاصت فى معصميك وكاحليك ، كلما حاولت التخلًَّص منها، لذا فليس أمامك سوى ان تهدأ ... وتنتظر .
توًَّقف الرجل عن المقاومة، بعد ان شعر بصحة حديث البارون الأحمر، فقد زاد ضغط القيود بالفعل، مع محاولته الاخيرة، وتألًَّقت عينا البارون، وهو يقول :
- بالضبط ... من الواضح انك سريع الاستيعاب يا سنيور (صاندو) .
نهض فجاة، على نحو أثار توتر رجاله أنفسهم، واتجه نحو التابوت المعدنى، وهو يقول :
- هذا التابوت أيضاً ، هو تحفة تكنولوجية مدهشة، فهو يحوى مكيفاً للهواء، يتوقف تلقائياً، بعد أربعين ساعة من بدء تشغيله، ونظام إمداد بالأكسجين، يكفى شخصاً بالغاً ليومين كاملين... تحفة ... أليس كذلك ؟!
ربًَّت على التابوت المعدنى فى إعجاب، ثم سحب يده فى حركة حادة، وهو يهتف ساخراً :
- ولكنه ملتهب من الخارج، وهذا امر طبيعى، فى هذا الطقس الرهيب .
ابتسم ابتسامة كبيرة ، ونفث دخان سيجارته مرة أخرى، ثم راح يدور حول الرجل المقيًَّد، قائلاً:
- الواقع أننى ، ومنذ ظهورك ، بدأت أفكًَّر فى كيفية مصرعك ؛ فمع رجل بتاريخك الحافل، ومواجهاتك اللا محدودة، سيكون من العار ان تلقى مصرعك بوسيلة عادية، مثل أى شخص عادى...حتى الموت بالرصاص ، لم يبد فى نظرى ابداعاً .
توقًَّف فجأة، والتمعت عيناه، وهو يضيف فى زهو : 
- ولهذا ابتكرت لك ميتة مختلفة تماماً... ومتميًَّزة للغاية ... حتى أننى استخدم الان ثلاث كاميرات مختلفة ؛ لتصوير مشهد النهاية من ثلاث زوايا ... لابد وان يعلم العالم كله ، أن البارون الأحمر هو من وضع نهاية لحياتك ... أليس كذلك ؟!
قالها، والتفت إلى أحدى آلات التصوير ، وابتسم ابتسامة عريضة، وكأنما يضع توقيعه على المشهد ، ثم تابع :
- الرجال انتهوا تقريباً من حفر قبرك، والآن سيتم وضعك داخل هذا التابوت، الذى يغلق بإحكام، وهو بالمناسبة ، مضاد للرصاص، وحتى القنابل ، وبعدها سنقوم بتشغيل أجهزة الاكسجين وتكييف الهواء، ثم ندفنك مع التابوت، على عمق ستة امتار ، فى قلب الصحراء ... ولن نترك حتى أية علامات مميًَّزة، يمكن أن تقود إلى قبرك .
التقط نفساً عميقاً من سيجارته، وبدا شديد الاستمتاع بموقفه كله، وهو يواصل فى زهو :
- ميتة فريدة بالفعل... ستحيا ليومين كاملين، دون طعام أو شراب ، على عمق ستة أمتار من سطح الأرض، وبعدها يتوقًَّف جهاز التكييف ، وينقطع الأكسجين، وتموت فى بطء ... فى بطء شديد .
أطلق ضحكة استمتاع عالية، جعلته أشبه بوحش مجنون، قبل أن يقول :
- كنت تسخر من ارتباطى باللون الأحمر، ولكنك الآن ستلقى مصرعك داخل تابوت احمر ...أليس هذا عقاباً مناسباً .
أشار إلى رجاله، عقب عبارته الأخيرة، فانقضوا على الرجل ، الذى حاول جاهداً ان يقاومهم، ولكن تأثير ذلك المخدر، أعجزه عن هذا، وهم يحملونه عنوة إلى ذلك التابوت المعدنى الأحمر، ويلقونه داخله فى قسوة، ثم يحكمون إغلاقه بمنتهى الإحكام ...
راقب البارون الأحمر هذا، فى استمتاع شديد، وتألًَّقت عيناه على نحو وحشى، عندما بدأ ونش كبير، يرفع ذلك التابوت ، الذى يزن طنين على الأقل، ثم ينخفض به إلى أعماق تلك الحفرة العميقة، حتى استقر فى قاعها ، وهنا ، بدأ رجال البارون الأحمر، يهيلون عليه رمال الصحراء، حتى اختفى تحتها تماماً، ثم واصلوا عملهم، حتى تساوت الرمال مع سطح الصحراء، وبعدها مرًَّ الونش فوقها عدة مرات، حتى يضيع أى أثر للمكان .
تألقت عينا البارون الاحمر بشدة، وهو يتابع المشهد حتى النهاية، ثم اتجه إلى عرشه، والتقط تلك الصورة، وألقى نظرة أخيرة عليها، وهو يقول :
- وداعاً يا سنيور (أميجو صاندو) .
ثم التفت ؛ليلقى بالصورة نحو البقعة، التى دفن أسفلها ذلك التابوت، مكملاً فى وحشية ظافرة :
- أم هل أقول : يا (أدهم صبرى) ؟!
قالها، وعاد يطلق ضحكة وحشية عالية، تجعلنا نلقى سؤالاً خطيراً ....
لو أن هذه هى النهاية، فكيف كانت البداية ؟!...
كيف ؟!.
______________________________________________

الفصل الثاني : اللغز


التقى حاجبا (أدهم صبرى) فى شدة، على نحو استدعى انتباه (منى توفيق) و(قدرى) معاً، وهما يستقلان سيارته، ولاحظ كلاهما أنه يمسك بيده مظروفاً أحمر اللون، على نحو عجيب، ويطالع خطاباً، حمل فى زاويته علامة كبيرة حمراء، جعلت (منى) تغمغم فى عصبية، دون أن تحاول إخفاء غيرتها :
- أخطاب غرامى هذا ؟!
هزًَّ (أدهم) رأسه فى صمت، وواصل مطالعة الخطاب لحظات، فأطلق (قدرى) ضحكة عابثة، اهتًَّز لها كرشه الضخم، وهو يغمز بعينه، قائلاً :
- لو أنه كذلك، لما جرؤ على قراءته فى حضورك يا عزيزتى .
لم يشعرها جواب (قدرى) بأى قدر من الارتياح، وإنما ظلًَّت تتطلع إلى (أدهم)، فى مزيج من القلق والفضول والغيرة، حتى أدار هذا الأخير عينيه إليها، وقال وهو يطوى الخطاب، ويعيده إلى ذلك المظروف الأحمر العجيب :
- إنه عرض من مستثمر أمريكى ؛ لشراء مزرعة (أميجو صاندو) فى (المكسيك)
غمغمت (منى) :
- وماذا يقلقك فى هذا ؟!...لقد كنت تفكًَّر في بيعها، منذ زمن طويل .
أجابها فى حزم :
- هذا صحيح ... لقد عرضتها للبيع، عبر مؤسستى فى الولايات المتحدة الأمريكية، والتى تحمل اسمى هناك (أميجو صاندو).
بدت عليها حيرة متوترة، وهى تسأله :
- أهذا المستثمر إمرأة ؟!
هزًَّ رأسه نفياً ، وهو يجيب :
- إنه لم يعلن اسمه... فقط شعار أحمر اللون، يحمل حرفى آر و بى بالانجليزية .
سأله (قدرى) هذه المرة :
- أهاذ ا ما يقلقك ؟!
أجابه (أدهم) فى ضيق واضح :
- بل ما يقلقنى حقاً هو أنه لم يرسل الخطاب إلى مؤسسة (صاندو)، بل أرسله إلى هنا... إلىًَّ أنا مباشرة .
تحوًَّل قلق وغيرة (منى) إلى دهشة كبيرة، وهى تقول :
- ولكن هذا يعنى أن ...
قاطعها (أدهم) بنفس الضيق:
- أنه يعلم أن مؤسسة (صاندو) تخصنى فعلياً ... وليس هذا فحسب، ولكنه أراد أن يخبرنى بعلمه هذا أيضاً .
انتقل القلق إلى (قدرى) ، وهو يقول :
- وما الذى يستهدفه من هذا ؟!
صمت (أدهم) بضع لحظات، ارتسمت على وجهه خلالها علامات التفكير العميق، قبل أن يغمغم :
- لست أدرى بعد .
مرًَّت عليهم لحظات من صمت، قبل أن يقطعه (قدرى) ، قائلاً فى مرح :
- وهل سيمنع هذا دعوتك لنا على عشاء فاخر ؟!
ثم مال نحو (أدهم) ، مردفاً وهو يغمز بعينه :
- ودسم .
حاولت (منى) أن تبتسم لدعابته، ولكن قلقها وتوترها منعاها من هذا، فى حين أدار (أدهم) محرًَّك سيارته، وهو يقول :
- كًَّلا بالطبع .
كان قد اختار مكاناً شديد التمًَّيز، يعلو احد الفنادق الكبرى المعروفة، ويطل من خلال مطعم دوًَّار على القاهرة كلها، ويدور حول محوره فى بطء، خلال ساعتين من الزمن، بحيث يشاهد الجالس العاصمة كلها، والتى تتألق بأضواء ساحرة فى الليل ...
ولقد كان الطعام شهياً بالفعل، حتى أن (قدرى) انهمك فيه بكل حواسه، فى حين لم تتناول (منى) منه إلا أقل القليل، وذهنها منشغل بأمر ذلك الخطاب، فى حين بدا (أدهم) وكأنه قد نسيه تماماً، حتى انتهى الطعام، وبدأ (قدرى) وحده فى التهام طبقاً كبيراً من الحلوى، وهو يقول فى استمتاع :
- اختيار رائع يا صديقى... فى المرة القادمة ستكون الدعوة على نفقتى.
ابتسم (أدهم) وهو يقول فى هدوء:
- أنت على الرحب والسعة دوماً يا صديقى .
مع نهاية عبارته، مالت (منى) نحوه؛ لتلقى عليه سؤالاً، لولا أن برز رجل غربى الملامح فجأة، يرتدى حلة فاخرة، يبلغ ثمنها عدة آلاف من الجنيهات، ووقف إلى جوار (أدهم)، قائلاً:
- هل اتشرف بالوقوف امام السيد (أدهم صبرى) شخصياً ؟!
رفعت (منى )عينيها إليه فى قلق، فى حين استدار إليه (أدهم) فى بطء، متسائلاً فى هدوء :
- هل سبق ان تعارفنا ؟!
ابتسم الرجل ابتسامة زلفة، وهو يجيب:
- سؤال لبق يا سيًَّد (أدهم)؛ فأنت من الذكاء، بحيث تعلم جيداً أنه لم يسبق لنا أن التقينا .
ثم أخرج من جيبه بطاقة، وضعها أمام (أدهم)، مستطرداً :
- ولكن من دواعى فخرى أن نتعارف .
تعلًَّقت الأعين بتلك البطاقة، خاصة وأنها كانت حمراء اللون، تماماً مثل ذلك المظروف، وعادوا جميعاً يتطلعون إلى الرجل، الذى شد قامته، وهو يكمل فى اعتداد:
- أنا (ميل توبلكس)... محامى امريكى، أعمل لحساب مؤسسة كبرى، تريد عقد صفقة ممتازة معك يا سيًَّد (أدهم).
تطلًَّع إليه (أدهم) لحظات، دون أية انفعالات، ووجهه الجامد لا يشف عما يعتمل فى نفسه، قبل أن يسأله فجأة:
- لماذا اللون الأحمر ؟!
كان من الواضح أن السؤال لم يفاجئ المحامى، الذى ابتسم فى هدوء، متسائلاً:
- ألن تدعونى إلى الجلوس أوًَّلاً ؟!
أجابه (أدهم) فى حزم صارم:
- كًَّلا ... هذه السهرة تضم الأصدقاء فحسب، ولست أظنك تندرج تحت هذه الفئة
.لم يبد الضيق على المحامى، وإنما حافظ على ابتسامته، وهو يقول:
- من يدرى ... ربما صرت كذلك فيما بعد .
قال (أدهم) بنفس الصرامة:
- لست اعتقد هذا .
أومأ المحامى برأسه متفهًَّماً، دون ان يفقد ابتسامته، وهو يقول:
- إنها صفقة تساوى مائة مليون دولار على الأقل، ولكنك دوماً تفضًَّل الصداقة، على أى شئ يا سيًَّد (أدهم).
أشاح (أدهم) بوجهه عنه، وكأنه ينهى المحادثة، قائلاً فى حزم:
- هذا صحيح.
قال المحامى، فى برود عجيب:
- كنت اتعشًَّم التشًَّرف بالجلوس مع أعز صديقيك... الآنسة(منى توفيق)، من اوًَّل دفعة لفتيات المخابرات فى (مصر)، والعبقرى (قدرى)، صاحب الأصابع الذهبية، والقادر على إعادة صنع أى شئ وكل شئ.
التفت إليه الثلاثة بنظرة دهشة، أضاف إليها (أدهم) شئ من القسوة، وهو يسأله:
- ما الذى تحاول الوصول إليه يا رجل؟!...ومن أين أتيت بما تقول؟!
اتسعت ابتسامة المحامى، وحملت شيئاً من الظفر، وهو يقول:
- أخشى أنك مضطر لاستضافتى على مائدتك، لو أنك ترغب فى معرفة الجواب يا سيد (أدهم).
رمقه (أدهم) بنظرة صارمة لحظة، ثم هبّ من مقعده، وواجهه مباشرة، وهو يقول بكل الصرامة:
- وماذا عن لكمة مباشرة، فى أنفك الاحمر هذا ؟!..
لم يبد ان عبارته قد أثرت كثيراً فى المحامى، الذى ظل ثابتاً، وهو يقول:
- معلوماتنا انك، وعلى الرغم من مواهبك المتعددًَّة، وقدراتك الفذة، رجل مهذًَّب يا سيًَّد (أدهم)، و(جنتلمان) حقيقى، ومثلك لن يلكم رجلاً مثلى، فى مكان كهذا، خاصة وانك تجلس مع أعز صديقين لك .
شعرت (منى) بتوتر شديد، خاصة وأن (أدهم) قد ضمًَّ قبضته بالفعل، وبدا وكأنه سيلكم الرجل بالفعل، فأسرعت تقول:
- لن يضيرنا هذا يا (أدهم) ... دعه يجلس؛ فالفضول سيقتلنا، لو انه انصرف، قبل ان نعرف ما خلفه.
ظلًَّت قبضة (أدهم) مضمومة لحظات، ثم لم يلبث ان أرخاها، وهو يقول بنفس الصرامة:
- فليكن ...اجلس.
بدا ارتياح ظافر على وجه المحامى، وهو يجذب مقعداً، ويجلس إلى جوار (قدرى)، الذى أبعد مقعده عنه قليلاً، و(أدهم) يسأل فى صرامة:
- مازال سؤالى بلا جواب ... لماذا اللون الاحمر، وماذا يعنيه؟!
هزًَّ المحامى كتفيه، وقال:
- هذا أمر يمكنك ان تجد جوابه على شبكة الانترنت يا سيًَّد (أدهم) ؛فالمؤسسة التى أعمل لحسابها، تمتلك موقعاً ضخماً عليها.
سأله (قدرى) فى فضول، وهو يخرج هاتفه الحديث :
- وما اسم تلك المؤسسة بالضبط ؟!
أدرك المحامى على الفور أنه سيبحث عن الاسم، عبر شبكة الانترنت، من خلال هاتفه، فأجاب فى هدوء:
- البارون الأحمر.
انعقد حاجبا (أدهم) فى شدة، وهو يقول:
- أيعنى هذا أنها مؤسسة المانية الجنسية ؟!
ابتسم المحامى، دون أن يجيب، فى حين تساءل (قدرى)، وهو يواصل بحثه:
- ولماذا المانية بالتحديد ؟!
أجابته (منى)، وهى تتطلًَّع إلى المحامى فى حذر وشك :
- البارون الأحمر لقب أحد أساطير الطيران، فى الحرب العالمية الأولى، وهو (مانفريد فون ريتشوفن)، ولقد أطلقوا عليه هذا الاسم، نسبة إلى الطائرة التى يقودها، والتى كانت ذات لون أحمر مميًَّز، ولقد أسقط ما يقرب من ثمانين طائرة، خلال زمن الحرب، وكان من النبل، حتى أنه أنقذ يوماً أحد الطيارين المعادين، عندما سقطت به طائرته، مما جعل منه رمزاً لأسطورة الطيران فى زمنه.*
اتسعت ابتسامة المحامى، وهو يقول:
- ثقافة واسعة لم تدهشنى يا آنستى.
بدت لهجة (أدهم) شديدة الصرامة، وهو يقول:
- مازلت لم تجب سؤالى بعد .
حمل صوت المحامى شيئاً من الصرامة هذه المرة، وهو يقول:
- من المؤسف أننى لست مخوًَّلاً لإجابة هذا السؤال يا سيًَّد (أدهم).
ضرب (أدهم) سطح المائدة براحته، قائلاً فى صرامة:
- هذا ينهى المحادثة .
الامريكى، فى تحد متبادل، قبل أن ينهض هذا الاخير بحركة حادة، قائلاً :
- فليكن يا سيًَّد (أدهم) … موكلى أراد إنهاء الصفقة على نحو متحضًَّر، ومادمت ترفض هذا، فعلىًَّ أن أبلغه فوراً؛ لأن لديه ترتيبات أخرى .
قالها، وهمًَّ بالانصراف، ولكن (أدهم) أمسك معصمه فى قوة، وهو يقول :
- لو أن هذا تهديد يا رجل، فإن …
قاطعه المحامى فى صرامة، وهو يحاول عبثاً جذب معصمه، من قبضته الفولاذية:
- موكلى ينتظر اتصالى يا سيًَّد (أدهم) .
ظلًَّ (أدهم) ممسكاً بمعصم المحامى، ثم لم يلبث أن أفلته، وهو يقول فى صرامة قاسية :
- لا تنسى أن تخبره أننى سألتقى به قريباً، ولست أظن هذا سيروق له عندئذ .
جذب المحامى يده، وهو يقول فى توتر :
- سأخبره.
قالها، وانصرف فى خطوات سريعة، فغمغمت (منى) فى توتر :
- من أين حصل على كل هذه المعلومات ؟!
وغمغم (قدرى) :
- هذا الرجل يشعرنى بالخوف .
قال (أدهم) فى حزم :
- ويشعرنى انا بالغضب .
فى نفس اللحظة التى نطقها، كان المحامى الامريكى يغادر ذلك المطعم الفاخر، وهو يجرى اتصاله بموكله، قائلاً فى غضب واضح :
- الأسلوب الأوًَّل لم يؤت ثماره، كما توقًَّعت تماماً يا سيًَّدى البارون، واظن انه من الضرورى أن ننتقل إلى المرحلة التالية.
أتاه صوت هادئ واثق، يقول عبر الهاتف :
- خطأ يا (توبلكس) .. لقد كنت اعلم مسبقاً أن رجلاً مثله لن يقبل بهذا الأسلوب، ولكن المعلومات التى فاجأته بها، ستثير فضوله وقلقه، وستدفعه دفعاً إلينا، وعندئذ … سينقلنا هو إلى المرحلة التالية .
قالها وأطلق ضحكة قوية ساخرة …
ضحكة جمعت بين الثقة، والاستمتاع ، و …
والوحشية …
بلا حدود .
______________________________________________

الفصل الثالث : نيويورك



" هذا ليس منطقياً !..."
نطقت (منى) بالعبارة فى توتر، وهى تراقب (أدهم)، أثناء إعداده حقيبته، ثم استطردت فى عصبية:
- كلانا يعلم أنهم أرادوا استفزازك؛ لتذهب إليهم .
أجابها، دون أن يلتفت إليها:
- ليس لدى أدنى شك فى هذا .
هتفت محنقة :
- لماذا إذن ؟!
اعتدل، والتفت إليها، قائلاً فى حزم:
- لكى أعرف.
هتفت :
- تعلم ماذا ؟!
أمسك يدها فى رفق، وقادها إلى أريكة جانبية، جلسا عليها معاً، وهو يقول فى هدوء:
- تلك الجهة، أياً كانت، تمتلك معلومات عنا، يفترض أن تكون سرية، وجهة كهذه، تستحق أن يسعى المرء؛ لكشف حقيقة هويتها ...أنا أعلم جيداً أنهم يترقبون وصولى إلى هناك، ولكن هذا ليس نقطة لصالحهم، مادمت أعلم هذا، بل على العكس، سأحاول استغلال هذا ؛ للتوصل إليهم، من خلال لعبتهم نفسها .
غمغمت فى توتر:
- لن يكون هذا سهلاً .
ابتسم، قائلاً :
- ومتى كان عملنا سهلاً ؟!
صمتت لحظات، وهى تتطلًَّع إلى عينيه مباشرة، قبل ان تقول فى حزم :
- فليكن ... سأنضم إليك، فى رحلتك هذه .
هزًَّ رأسه نفياً فى بطء، وهو يجيب، فى حزم اكبر :
- كًَّلا ... سأفقد بهذا خط الدفاع الثانى، إذا ما تأزمت الأمور .
هتفت معترضة :
- ولكن ...
مس شفتيها بانامله فى رفق، وهو يقاطعها فى حزم:
- لا يوجد لكن ... هذا أمر أيتها المقدًَّم .
شعورها بلمس أنامله على شفتيها ألجمت لسانها، وجعلت قلبها يخفق فى عنف، وهمًَّت بقول شئ ما، لولا ان دخل (قدرى) إلى الحجرة، فى اللحظة ذاتها، وهو يقول :
- ألا تتناول الطعام هنا أبداً ؟!... برًَّادك خال تقريباً .
التفت إليه (أدهم) مبتسماً :
- هناك اكثر من عشرة مطاعم للوجبات الجاهزة حولنا ... يمكنك ان تطلب ما تشاء .
قلب (قدرى) شفتيه، وهو يقول :
- تلك الوجبات السريعة لا تناسبنى .
ثم ناول (أدهم) حقيبة صغيرة، وهو يستطرد:
- المهم أننى قد انهيت كل ما طلبته .
نقلت (منى) بصرها بينهما، وهى تقول فى لهفة :
- هل ستسافر متنكراً ؟!
نهض (أدهم) يدس الحقيبة الصغيرة فى حقيبته، وهو يقول :
- كيف سيرصدوننى عندما أصل إذن ؟!
وتضاعف توتر (منى) :
ألف مرة ...
* * *
لم يكد (ميل توبلكس) يصل إلى مطار (نيويورك)، حتى اتجه مباشرة إلى سيارة شديدة الفخامة ، تنتظره أمام المطار مباشرة، على الرغم من ان القوانين الامريكية تمنع هذا ، ولم يكد يستقر داخلها، حتى انطلقت على الفور، وسائقها يقول فى صوت خشن، بدا وكأنه صوته التقليدى :
- البارون سيجرى اتصاله بك فوراً .
قالها، وضغط زراً فى تابلوه السيارة، فارتفع حاجز عازل للصوت، يفصله عن (توبلكس)، الذى ضغط بدوره زراً أمامه، فاضيئت شاشة صغيرة فى مواجهته، ظهر عليها وجه البارون، وهو يقول فى صرامة:
- أخبرنى آخر ما لديك .
تنحنح (توبلكس) ، قبل أن يقول :
- لم يستجد أى جديد، حتى صعودى إلى الطائرة، ولكن العيون التى تركتها خلفى، اخبرتنى أن الثلاثة قد التقوا، فى منزل (أدهم) هذا، كما أن أحد متسللى الكمبيوتر، الذين يعملون لحسابنا، أكًَّد أنه قد حجز تذكرة بالدرجة الاولى، فى طائرة الثامنة صباحاً، أى انه من المفترض أنه قد استقلها الآن، وسيكون فى طريقه إلى هنا .
سأله البارون بنفس الصرامة :
- وحده ؟!
أومأ (توبلكس) برأسه إيجاباً ، قبل أن يغمغم :
- نعم ... وحده ... حسب ما لدى من معلومات .
صمت البارون طويلاً هذه المرة، وبدت على ملامحه علامات التفكير العميق، فلاذ (توبلكس) بالصمت بدوره، دون أن يجرؤ على مقاطعته بحرف واحد، حتى اعتدل البارون فجاة، وبدا جزلاً ، وهو يقول:
- لقد أدركت ما يستهدفه هذا الثعلب المصرى ... ملفه يقول : إنه من الذكاء، بحيث سيدرك على الفور أننا نحاول جذبه إلى هنا، باستفزازه على النحو الذى فعلته، وسيدرك أكثر أننا سنكون فى انتظار وصوله هنا .
غمغم (توبلكس) فى حذر :
- هذا أمر طبيعى .
تراجع البارون فى مقعده، وهو يقول فى ثقة :
- ولهذا لن نفعله .
انعقد حاجبا (توبلكس) ، فى تساؤل حائر، فأكمل البارون بنفس الجزل :
- سنتركه يصل فى سلام، ولن نضع احداً لرصده أو تعقًَّبه، مادمنا سنعرف أين سيقيم .
بدا (توبلكس) شديد التوتر، وهو يقول :
- وماذا لو استقر فى أحد البيوت الآمنة، التابعة لجهاز مخابراته؟!...عندئذ قد نفقد أثره تماماً .
أجابه البارون فى حزم :
- لن نفقد أثره أبداً؛ لأنه هو سيسعى للبحث عنا، وهذا هو السبب الذى اتى به إلى هنا، وسيربكه حتماً ألا نحاول رصده أو تعقًَّبه، بعدما أدرك كم المعلومات السرية، التى لدينا ...
ثم اتسعت ابتسامته، وهو يضيف :
- اطمئن يا (ميل) ... البارون يفوز دوماً فى النهاية ... اطمئن .
قاله، وأطلق ضحكة ظافرة واثقة، وصورته على الشاشة تتلاشى ...
وتتلاشى ...
وتتلاشى ...
* * *
تلبدًَّت سماء (نيويورك) بالسحب، فى ذلك اليوم، وبدت على وشك أن تمطر، عندما غادر (أدهم) مبنى المطار، وهو يحمل حقيبته الواحدة الصغيرة، التى لا تفارق يده أبداً ...
كان بالفعل يتوقًَّع شيئاً من الرصد أو المراقبة، إلا أنه تحرًَّك على نحو طبيعى، واستقل أوًَّل سيارة أجرة امامه؛ لينطلق بها نحو فندق (امبريال)، فى قلب (مانهاتن)
كان قد اختار فندقاً معروفاً، قريباً من (سنترال بارك)، المتنزًَّه الاكبر فى المدينة، والذى يتوسًَّط شوارعها تقريباً، وتعمًَّد ان يخبر السائق عن وجهته بصوت مرتفع، قبل أن يستقل السيارة، وعلى الرغم من هذا، فكل خبراته أنبأته بأنه لا يوجد من يرصده أو يتعقًَّبه ..
ولقد أدهشه هذا فى الواقع ...
ثم دفعه إلى تفكير عميق ...
كانت أبرز صفاته هى أنه لا يتوقف قط عند نقطة بعينها، وإنما يعيد دوماً منهجة العملية كلها، وفقاً لأية تطوًَّرات مفاجئة ...
ولم تكن هذه مهمة رسمية بالفعل ...
ولكن هذا لم يكن ليصنع فارقاً ...
فالأسلوب هو الأسلوب ...
والرجل هو الرجل ..
وعندما وصلت السيارة إلى الفندق، كان قد حللًَّ ما حدث، واستخلص منه بعض النتائج الاساسية...
لقد توقًَّعوا ما سيفعله، واستنتجوا خطته، فى استغلال من سيتعقًَّبه، للوصول إليهم ...
ولهذا لم يرسلوا خلفه احداً ...
استقر فى حجرته، المطلة على المتنزًَّه، وهو يواصل التفكير فى الامر ..
إنها لعبة صبر إذن ...
من سيبدأ الخطوة الاولى ؟!...
وكيف ؟!..
هكذا ستدور اللعبة ....
لعبة البارون ...
الأحمر ...
* * *
" لم يحاول شيئاً، حتى هذه اللحظة ..."..
نطق (توبلكس) العبارة فى توترشديد، وهو يتطلًَّع إلى شاشة كبيرة فى مكتبه الفاخر، فى الجادة الخامسة، أرقى مناطق (مانهاتن)، حيث ملأها وجه البارون، الذى حافظ على ابتسامته الواثقة، وهو يقول :
- إنه ثعلب مصرى بحق ... لقد فهم اللعبة، وقررًَّ أن يعبث بنا، كما نعبث به .
مغمغ (توبلكس) فى حذر :
- يمكننا ان نعمد إلى استفزازه، حتى يخرج عن صمته .
أجابه البارون بكل الصرامة:
- كًَّلا .
ثم صمت لحطات، قبل أن يسأله:
- إنه لا يبقى طوال الوقت فى فندقه ... أليس كذلك ؟!
أجابه (توبلكس) فى سرعة :
- كًَّلا ... لقد زار مؤسسته يوماً واحداً، راجع خلاله كل ما يتعلًَّق بالعمل، وعقد اجتماعاً مع المديرين التنفيذيين، ثم يقضى ما تبقى من الوقت فى جولات سياحية فى المدينة، كأى سائح عادى، و ...
قاطعه البارون ، متسائلاً:
- ماذا زار بالضبط ؟!
اجابه (توبلكس) بنفس السرعة:
- تجوًَّل فى (سنترال بارك)، وزار بناية (امباير ستايت)، ثم ...
قاطعه البارون بصيحة غاضبة هادرة :
- غبى .
ارتفع حاجبا (توبلكس) فى شدة، وهو يكررًَّ الكلمة فى دهشة مستنكرة خائفة :
- غبى ؟!
صاح فيه البارون، فى غضب هادر :
- نعم ... غبى ... التفاصيل التى ذكرتها، تعنى أنك قد تجاهلت أوامرى الصريحة، وأرسلت من يراقبه ويتتبعه .
ارتبك (توبلكس) بشدة، وكاد يسقط فاقد الوعى، وهو يتمتم بصوت مرتجف :
- لقد خشيت ان ...
عاد البارون يقاطعه، بصرخة أشد غضباً :
- غبى... غبى ... غبى ... ألا تدرك ما فعلته؟!...لقد قلبت الكفة لصالحه، وبدلاً من ان نمسك نحن بزمام الأمور، صار بإمكانه أن يمسك هو بها .
اندفع (توبلكس) يقول مرتجفاً، محاولاً تبرئة نفسه :
- لقد أرسلت رجلين محترفين، كانا يعملان سابقاً، فى المخابرات الأمريكية، وتلقيا تدريبات مكثفة، حول سبل المراقبة و التتبًَّع، و ...
قاطعه البارون مرة أخرى، فى غضب هادر :
- وهل تصوًَّرت أن خصمنا فتى كشًَّافة ؟!... إذا كانا من المحترفين، فهو ملك المحترفين، كما يقول ملفه، وتاريخه لا يحوى هزيمة رجال مخابرات فحسب، ولكن نظم مخابرات باكملها، وتنظيمات إجرامية او تجسسًَّية، عجزت عن هزيمتها دول كبرى ...
ارتبك (توبلكس) بشدة، وهو يغمغم :
- ولكنه مجرًَّد رجل واحد ...
صرخ البارون:
- ليس رجلاً عادياً ... اتدرك بم يلقبونه، فى عالم المخابرات ؟!... رجل المستحيل ... هذا لأنه وحده، قادر على فعل ما تعتبره أنظمة كاملة فى عداد المستحيل .
حاول (توبلكس) بائساً الدفاع عن نفسه، وهو يغمغم :
- ولكن ...
انتفض جسده فى عنف ورعب، عندما أتت مقاطعته من خلفه هذه المرة، بصوت يقول فى هدوء :
- إنه على حق .
استدار بكل رعب الدنيا، يحدًَّق فى الرجل الذى وقف هادئاً مسترخياً، مستنداً إلى إطار باب الحجرة، وعيناه معلًَّقتان بالشاشة الكبيرة، وهو يكمل فى اهتمام :
- إذن فهذا هو البارون الأحمر .
وانعقد حاجبا البارون فى شدة على الشاشة ...
فلقد كان هذا الرجل هو (أدهم) ...
(ادهم صبرى) ...
شخصياً .


______________________________________________


الفصل الرابع : اللقاء

بدت (منى) شديدة العصبية، وهى تعد حقيبتها، على نحو جعل (قدرى) يغمغم فى حذر :
- لن يروق هذا لـ (أدهم) .
أجابته فى عصبية :
- أعلم هذا .
ارتفع حاجباه فى دهشة، وتطلَّع إليها فى صمت بضع لحظات، ثم قرَّر تجاوز الامر كله، وهو يربَّت على معدته، مغمغماً :
- أتعشَّم أن نجد مطعماً شرقياً فى (نيويورك) .
أغلقت حقيبتها، وهى تقول فى عصبية أكثر :
- وأنا اتعشَّم أن نجد (أدهم) ، عندما نصل إلى هناك .
ارتفع حاجباه فى دهشة أكبر هذه المرة، والتفت إليها بجسده كله، وهو يقول :
- ألا تثقين فى قدرته على معالجة الأمر ؟!
قالت فى حدة :
- (أدهم) يمكنه معالجة أى أمر .
وبذلت جهداً خرافياً ؛ لتمنع دمعة حارة من الانسكاب على وجنتها، وهى تكمل :
- ولكن ملف مؤسسة (البارون الاحمر) لدينا، يشير إلى أنها لن تكون مواجهة عادية أبداً .
قال فى حيرة متردَّدة :
- لقد واجه (أدهم) أجهزة مخابرات كاملة من قبل .
قالت فى حدة شديدة، وهى تحمل الحقيبة :
- وواجه الموت ألف مرة أيضاً .
حمل حقيبته بدوره، وهو يغمغم :
- ونجا منه .
اندفعت نحو الباب، قائلة :
- ليس فى كل مرة تسلم الجرَّة .
لحق بها وهو يلهث، مع وزنه الضخم، ويهتف من وسط لهاثه :
- ولكنه طلب منا ان ...
قاطعته بكل عصبيتها :
- هل تأكَّدت من وجود جواز سفرك وتذكرة الطائرة ؟!...
غمغم، وهو يتحسَّس جيبه :
- نعم، ولكننى مصَّر على أن (أدهم) قد ...
قاطعته مرة أخرى، فى حزم عصبى :
- هيا بنا إذن .
أدرك أنها تطلب منه إغلاق شفتيه، ولكن كل هذا الكم من الإثارة أورثه شعوراً بالجوع ...
الجوع الشديد ...
جداً ...
* * *
مرَّت لحظات من الصمت، و(أدهم) يرتكن إلى حاجز الباب فى هدوء، متطلعاً إلى البارون فى تحد واضح، بادله إياه هذا الأخير، فى حين راح المحامى (توبلكس) ينقل نظره بينهما فى توتر، قبل أن يقول البارون فى بطء، غلب عليه البرود :
- أعترف أنك قد فزت بهذه الجولة يا سيَّد (ادهم) .
هزَّ (أدهم) كتفيه فى لا مبالاة، وقال فى هدوء :
- كان هذا بفضل حماقة محاميك أيها البارون؛ فبعد أن حطمَّت أنف ذلك الأبله، الذى أرسله خلفى، صار مستعداً للبوح بكل أسرار حياته، حتى لا يتلقى لكمة أخرى .
انكمش (توبلكس) فى مقعده، على نحو يدعو للشفقة، فى حين بدا من الواضح ان البارون يبذل جهداً خرافياً ؛ للسيطرة على غضبه، وهو يقول فى بطء :
- أنت على حق .
ابتسم (أدهم) ابتسامة مستفزة، وهو يقول :
- ولكن من حسن الحظ أن جعلنا هذا نلتقى .
غمغم البارون، عاجزاً عن كتمان غضبه :
- بل قل من سوء التخطيط .
انتفض (توبلكس) فى مقعده، ثم هب يهتف فى عصبية :
- سيد (أدهم) ... أنت تقتحم ملكية خاصة بلا دعوة، وهذا يمنحنى الحق فى إبلاغ الشرطة، وفى استخدام القوة؛ لإخراجك من هنا .
هزًَّ (أدهم) متفيه مرة أخرى، وقال، دون ان يفقد هدوءه :
- لو أنك تشير إلى الدبين، اللذين وضعتهما لحراستك، فالأفضل أن تبلغ الإسعاف لا الشرطة .
احتقن وجه المحامى بشدة، وهو يغمغم :
- هل تقصد أنك ...
قاطعه البارون فى صرامة :
- اصمت يا (توبلكس) .
عاد المحامى ينكمش فى مقعده، وهو يتمتم :
- سيَّدى البارون ... لقد كنت فقط ...
قاطعه (أدهم) هذه المرة :
- ألم يخبرك أن تصمت ؟!..
ازداد احتقان وجه المحامى، وازداد انكماشه فى مقعده، فى حين قال البارون فى صرامة :
- فليكن ... لقد أثبت براعتك وقوتك يا سيَّد (أدهم)، والآن دعنا ننتقل إلى الناحية العملية .
قال (ادهم) فى هدوء :
- كلى آذان مصغية .
شد البارون قامته، وقال بنفس الصرامة، عبر الشاشة الكبيرة :
- إننى أقدَّم لك عرضاً لشراء مزرعتك فى (المكسيك)، مقابل مائة مليون دولار .
أشار (أدهم) بيده، قائلاً :
- هذا يدهشنى فى الواقع أيها البارون؛ فلقد عرضت فكرة بيع المزرعة، منذ عدة أشهر، وأكبر عرض تلقيته فى هذا الشأن، كان يبلغ نصف هذا المبلغ فحسب، ووفقاً لمعلوماتى، لا يقدم أى شخص، على دفع ضعف ثمن أى شئ، إلا لو كان هناك مبرَّر لهذا .
قال البارون بمنتهى الصرامة :
- المبرَّرات ليست من شأنك يا سيَّد (أدهم) ... اقبل العرض أو أرفضه .
اعتدل (أدهم)، وهو يقول فى صرامة مماثلة :
- أظننى قد رفضته من قبل .
سأله فى حدة :
- والمبرَّرات .
حملت شفتا (أدهم) ابتسامة مستفزة، وهو يقول :
- أظنك قد أجبت السؤال مسبقاً أيها البارون... المبرَّرات ليست من شأنك .
مضت فترة من الصمت بينهما، أثارت قلق المحامى، قبل أن يميل البارون نحو الشاشة ، قائلاً فى شراسة عجيبة :
عندما يطلب البارون الأحمر أمراً، فهو يعرض مطلبه بسخاء ثم قست ملامحه فى شدة، وهو يضيف :
- وهو فى الوقت ذاته، لا يقبل بالرفض .
صمت (أدهم) لحظة، قست خلالها ملامحه بدوره، قبل أن يجيب :
- على البارون الاحمر إذن أن يقبل بالرفض هذه المرة؛ لأنه ليس هناك من جواب سواه .
اعتدل البارون دفعة واحدة، على نحو حاد، وهو يقول :
- هل تعتقد هذا ؟!
ثم ضغط زراً فى مقعده، وهو يضيف فى حدة :
- ربما يتغيَّر رأيك بعد قليل إذن .
تحفَّزت كل عضلة فى جسد (أدهم)، مع ذلك الفعل الأخير، وتصوَّر أنه سيواجه هجوماً ما، ولكن كل ما حدث هو أن صورة البارون قد اختفت من الشاشة، فى حين غمغم المحامى، وهو يعتدل فى مقعده :
- أيها الأحمق .
التفت إليه (أدهم) بنظرة صارمة، ولكنه تابع فى عصبية :
- لقد أعماك غرورك عن رؤية الواقع ... البارون لا يمزح فى مثل هذه الأمور، ولقد كان مستعداً تماماً للموقف .
لم يكد ينتهى من عبارته، حتى ارتفع رنين هاتف (أدهم) الخاص فجأة، فالتقطه فى سرعة، وأدهشه أن المتصل هو (بدرو)، مدير مزرعته، ولم يكد يجيب، حتى سمع صوت هذا الأخير يصرخ:
- سنيور (صاندو) ... إننا نواجه هجوماً رهيباً ... أنقذنا ... أرجوك .
سأله (أدهم)، وقد انعقد حاجباه فى شدة :
- ماذا يحدث عندك بالضبط يا (بدرو) ؟!
ارتفع حاجبا المحامى فى دهشة، مع الإسبانية المتقنة، التى تحَّدث بها (أدهم)، فى حين هتف (بدرو)، فى رعب واضح :
- إنه أمر يعجز العقل عن تصوَّره يا سنيور ... إننا نواجه جيشاً كاملاً ... قوات مشاة، ومدرعات، وطائرات بقنابلها... أرجوك يا سنيور (صاندو) ... إننا ..
سمع (أدهم) دوى انفجار مكتوم، عبر الهاتف، قبل أن ينقطع الاتصال تماماً، فى حين أطلق المحامى ضحكة عصبية، وهو يقول، على نحو هستيرى :
- ألم أقل لك ... البارون لا يمزح أبداً، فى مثل هذه الأمور .
اندفع (أدهم) نحوه فجأة، فتراجع الرجل فى ذعر، صارخاً :
- ماذا ستفعل ؟!
ارتطم مع تراجعه بمقعده، فسقط فوقه ثانية، ولكنه فوجئ بقبضة (أدهم) تمسك سترته، ثم ترفع جسده كله، وهذا الأخير يسأله فى صرامة مخيفة، وعيناه تخترقان كيانه كله :
- وما الذى يفعله أو لا يفعله البارون أيضاً ؟!...هيا ... أخبرنى، قبل أن تلحق بحارسيك الغبيين .
صرخ (توبلكس) فى رعب هائل :
- لن يمكنك أن تربح المعركة بالقوة أيها المصرى ؛ فالبارون يعرف الآن أنك هنا .
مع قوله، سمع (أدهم) صرير إطارات سيارات قوية، تتوقف فى الخارج، فى عنف واضح، وأدرك أن البارون قد بداً حربه بالفعل ...
وأنها لن تكون حرباً هينة ...
أبداً ...
* * *
ارتجف جسد (بدرو)، من قمة رأسه، وحتى أخمص قدميه، وهو يرفع يده عالياً، أمام الرجال الثلاثة، الذين يرتدون زياً عسكرياً أحمر اللون، لا يشبه أى زى عسكرى رآه من قبل، والذين يصَّوبون إليه فوهات مدافعهم الآلية، وراح يهتف، فى لهجة متوسلة، أقرب إلى البكاء :
- لا تقتلونى ... أرجوكم ... إننى أستسلم ... لن يقاوم أحدنا ... أقسم لكم .
ظهر رجل متين البنيان، من خلف الرجال الثلاثة، وتجاوزهم حاملاً مدفعاً آليا عجيب الشكل ، وقسمات وجهه تحمل من القسوة، ما يجعلك تتصوَّر أنه ولد على هذا النحو، واتجه نحو (بدرو) مباشرة، وهو يقول فى قسوة تنافس ملامحه :
هذه المزرعة، منذ هذه اللحظة، صارت ملكاً للبارون الأحمر ... هل تفهم هذا ؟!
ارتجف صوت (بدرو)، وهو يقول :
- كل ما تقوله يا سيَّدى... كل ما تقوله ... ولكن هذه المزرعة ليست ملكاً لى ... إنها ملك سنيور (أميجو صاندو)، ولست أظنه يرضى بهذا ، و....
اشتعلت عينا الرجل بالغضب، وخفض فوهة مدفعه العجيب نحو (بدرو)، الذى استدرك فى سرعة:
- ولكن هذا شانكم معه، وليس معى .
ظلَّت ينا الرجل مشتعلتين بالغضب لحظات، ثم لم يلبث أن أشار إلى رجاله، قائلاً بنفس القسوة:
- ألقوهم جميعاً فى اسطبلات الخيل، واطلقوا النار بلا تردَّد، على من يبدى أدنى مقاومة منهم، أو يحاول الفرار بأى حال من الأحوال، حتى يرى البارون رأيه بشانهم .
أسرع الرجال يدفعون (بدرو) وباقى العاملين أمامهم فى قسوة، فى حين أشعل الرجل سيجاراً ضخما كجسده، وجلس خلف مكتب (بدرو)، ورفع قدميه فوقه، وهو يخرج هاتف أقمار صناعية خاص، يستحيل تتبعه، ويجرى اتصالاً، لم يكد يتم، حتى قال، وهو ينفث دخان سيجاره :
- المكان كله تحت السيطرة أيها البارون .
آتاه صوت البارون، يقول فى انتعاش :
- هل ارتفع العلم الاحمر على المزرعة ؟!
اجابه فى ثقة :
- الرجال يرفعونه الآن، ويضعون اسمك عليها، بدلاً من اسم ذلك المالك القديم، الذى لم يقبل بالتسوية السلمية .
قال البارون عبر الهاتف فى انتعاظ :
- عظيم ... سيدرك الآن أنه كان عليه أن يقبلها .
سأله الرجل فى اهتمام :
- ولكن ماذا عن الأوراق الرسمية، والقانون، وكل تلك الامور السخيفة الأخرى ؟!
أجابه البارون فى حزم ك
- لا تشغل بالك بهذا يا (ألنزو) ... أد دورك فحسب، واترك كل التعقيدات الاخرى لجيش المحامين فى المؤسسة.
مطًَّ (ألنزو) شفتيه، ونفث دخان سيجاره مرة أخرى، وهو يسأل :
- وماذا عن المالك القديم ؟!...يقولون : إنه يمتلك مؤسسة كبيرة أيضاً .
أجابه البارون فى جذل :
- المهم الآن هو أن يمتك حياته ... فقط حياته .
قالها ، وأطلق ضحكة عالية ...
طويلة ....
ورهيبة .
______________________________________________


الفصل الخامس : الرجل



بمنتهى العنف، اقتحم رجال البارون منزل المحامى الامريكى، وهم يشهرون أسلحتهم فى تحفًَّز، خاصة بعد ما راوا ما أصاب حارس (توبلكس)، وبعد أن حذرهم البارون نفسه من مهارات (أدهم) وقدراته الفائقة، وسعة حيلته، فى مواجهة الاخطار، كما أشار ملفه الضخم، الذى يحتفظ بنسخة خاصة منه ...
ولقد نفذوا هجومهم باحترافية خاصة تشير إلى خبراتهم السابقة فى هذا المضمار ... فريق منهم قاد عملية الهجوم، فى حين انتشر فريقان آخران حول المنزل، تحسباً لأية محاولة فرار ...
الشئ الذى تشابهوا فيه جميعاً، كان تحفزًَّهم الشديد، وذلك الزى الأحمر، الذى جعلهم أشبه بشياطين، انبعثت من قلب الظلام؛ لتشن هجومها على الأرض ...
ولكن كانت فى انتظارهم جميعاً مفاجأة ...
لقد سيطروا على المكان بسرعة فعلياً، وانتشروا فيه فى لحظات، وأسلحتهم مشهورة متحفًَّزة، و...
ولم يكن (أدهم) هناك ...
لم يكن فى المكان سوى (توبلكس) نفسه، الفاقد الوعى على مقعده، والذى مازالت ملامحه تحمل مزيجاً عجيباً، من الذعر والألم، على الرغم من غيبوبته ...
وفى بحث محموم، جاب الرجال كل حجرات المنزل، المكًَّون من طابقين كبيرين، وطابق ثالث صغير، وبدروم واسع أسفله ...
جابوا المكان كله، بكل تحفزًَّهم، وفتشوا كل ركن منه ...
كل ركن بلا استثناء ...
ولكنهم لم يجدوا (أدهم) ...
كان وكأنه قد تبخًَّر تماماً، دون أن يترك خلفه أدنى أثر ...
ولم يكد البارون يسمع هذا من قائدهم، حتى انتابه غضب شديد، وهتف به فى ثورة:
    - ماذا تعنى بالضبط ؟!...إنه هناك بلا شك ... لا يمكنه أن يغادر المكان، فى هذا الوقت القصير !!... ابحثوا مرة أخرى .
أجابه قائد المجموعة فى توتر :
    - لقد فعلنا مرتين يا سيًَّدى، ولم نعثر له على أدنى أثر .
هتف البارون فى حدة :
    - مستحيل !
صمت الرجل مرتبكاً، وصمت البارون نفسه لحظات، ثم بدا صوته صارماً، أكثر منه غاضباً، وهو يسأل :
    - أين (توبلكس) ؟!
أجابه الرجل بنفس توتره :
    - إنه فاقد الوعى، فى الطابق السفلى .
صمت البارون لحظات أخرى، قبل أن يقول، فى صرامة أكبر :
    - أيقظوه، وأشعلوا شاشة الاتصال فى البهو .
لم تمض دقيقتان، حتى نفذ الرجل أوامره، وبدا (توبلكس) مترنحناً، وهو يهتف فى عصبية :
    - أين هو ؟!.... أين ذهب ؟!... هل نلتم منه ؟!
أجابه الرجل فى خشونة، متجاهلاً أسئلته :
    - البارون هنا .
التفت (توبلكس) فى هلع إلى الشاشة الكبيرة، التى ظهر عليها وجه البارون، الذى سأله بكل صرامته :
    - السؤال لك يا (توبلكس) ... أين هو ؟!
ارتبك (توبلكس) فى شدة، وهو يجيب :
-    ومن أدرانى يا سيًَّدى البارون؟!... لقد تلقيت منه لكمة عنيفة، فور أن سمع مقدم رجالك، فقدت معها الوعى، ولم ...
قاطعه البارون فى صرامة:
– اقترب من الشاشة .
بدت الحيرة على وجه (توبلكس)، وهو يغمغم :
    - أقترب ؟!
كرًَّر البارون، فى شئ من الحدة :
    - قلت : أقترب .
تقدًَّم (توبلكس) فى تردًَّد من الشاشة، حتى صار فى مواجهة آلة التصوير الصغيرة فى اعلاها، وهو يغمغم :
    - سيًَّدى البارون، لست أفهم ...
زمجر البارون فى شراسة، وهو يصرخ :
    - اقترب .
انتفض جسد (توبلكس)، وهو يميل إلى الامام، حتى لم تعد تفصله عن آلة التصوير سوى سنتيمترات قليلة ...
لثوان، صمت البارون تماماً، ثم لم يلبث أن زمجر مرة اخرى، قائلاً فى لهجة آمرة صارمة شرسة:
    - انزعوا قناع هذا الزائف .
واندفع رجاله لينتزعوا قناع (توبلكس) ...
وبمنتهى الوحشية ...
*            *            *
احتشد رجال مزرعة (صاندو) فى اسطبل الخيل الكبير، يرتجفون من تلك المدافع الآلية، المصوًَّبة إليهم، وقد أفزعهم ذلك الزى الأحمر العجيب، الذى لا يتناسب مع شراسة وغلظة وقسوة من يرتدونه، فى حين رفع (ألنزو) فوهة مدفعه، وراح يتجوًَّل بينهم فى بطء، وبين شفتيه سيجار كوبى فاخر، ينفث دخانه من جانب فمه، وهو يتابعهم ببصره فى بطء لا يدعو إلى ارتياح، ثم لم يلبث أن توًَّقف فجأة، وأشار إلى أحدهم، قائلاً فى حدة :
    - أنت .
ارتجف الرجل وهو يغمغم فزعاً :
    - أنا سنيور ؟!
اندفع (ألنزو) نحوه، وجذبه من سترته فى وحشية، ودفعه أمامه فى قسوة، وهو يقول :
    - عندما ألقى سؤالاً، فأنا أبغض سماع صداه .
دفع الرجل فى عنف، حتى ارتطم بجدار الأسطبل، وسقط على وجهه، فقال  فى وحشية عجيبة:
    - انهض .
نهض الرجل مرتجفاً، يتطلًَّع إليه فى رعب، فالتفت (ألنزو) إلى الباقين، وقال بنفس الوحشية :
    - كلكم الآن تتساءلون: لماذا هذا الرجل؟!... وماذا فعل؟!... والجواب، وبكل بساطة، أنه لم يفعل شيئاً ... لقد كان مثلكم خائفاً مذعوراً .
وعاد يلتفت إلى الرجل، وهو يضيف :
    - تذكًَّروا هذا جيداً ... إنه لم يفعل شيئاً.
خفض فوهة مدفعه الآلى، ليصوًَّبها نحو الرجل، الذى صرخ فى رعب :
    - سنيور ... اننى ...
قاطعه (ألنزو) بسيل من رصاصات مدفعه، اخترق جسد المسكين فى مواضع شتى، فجحظت عيناه من الرعب والألم، فى حين تعالت صرخات الآخرين، وصهلت الخيول فى هياج، وسالت دماء الرجل، الذى سقط أرضاً، على أرضية الأسطبل، وزادت رائحتها من هياج الخيول، ولكن (ألنزو) لم يبال بهذا، وهو يلتفت إلى الرجال، صارخاً فى صرامة :
    - الصمت .
بدا وكأن صرخته موجهًَّه للجميع، حتى الخيول، التى خفت صوتها دفعة واحدة، وراحت تضرب الأرض بقوائمها فى عصبية، وتطلق أصواتاً أشبه بالاعتراض، فى حين بدا هو أكثر وحشية، وهو يقول :
    - هذا الرجل قتل وهو لم يفعل شيئاً، فماذا عمن يحاول فعل أى شئ ؟!
شحبت وجوه الكل، وانكمشوا فى أماكنهم، وخاصة مع ضحكات رجال (ألنزو)، الذين لم يكونوا أشبه بشياطين الجحيم، مثلما كانوا فى هذه اللحظة ...
أما هو، فقد راح يسير فى المكان فى زهو، قائلاً:
    - من عادتى ان أوجه التحذير مرة واحدة، وفى الثانية، أسقط الامر كله خلف ظهرى .
وقست عيناه مع صوته، وهو يضيف :
    - وأقتل الجميع ... بلا استثناء .
ازداد انكماشهم فى رعب، وتألقت عيناه فى ظفر، وهو يلتفت إلى رجاله، قائلاً فى شراسة :
    - هل سمعتمونى جيداً ؟!... عند اية بادرة للمقاومة ... اقتلوا الجميع .
ابتسم رجاله فى وحشية، وكأنما يروق لهم هذا، حتى أن (بدرو) تصوًَّر أنهم يتمنون أن تحدث أية مقاومة، حتى يتمتعوا بقتل الجميع، فى حين غادر (ألنزو) الاسطبل، وهو واثق من أنه بهذا قد احكم سيطرته على المكان ...
تماماً ...
*            *            *
انطلقت صرخة رعب من (توبلكس)، والرجال ينتزعون ذلك القناع عن وجهه، وتراجع فى رعب، أمام مدافعهم التى صوًَّبوها إليه، عندما هتف البارون فى عصبية :
    - انتظروا ...
كانت مفاجأة حقيقة له، أن ينتزع الرجال ذلك القناع، الذى رآه فى وضوح، على وجه )توبلكس)، فيجد وجه (توبلكس)، الذى يعرفه جيداً ...
ولم يفهم أبداً لماذا ؟!...
لقد درس ملف (أدهم) جيداً، وأدرك أن لعبة تبديل الشخصيات هى لعبته المفضلة، وخاصة مع موهبته الفريدة فى انتحال الشخصيات، وعبقريته فى تغيير نبرات صوته، بحيث تحاكى شخصية من ينتحل هيئته ...
ولكنه لم يفهم لماذا حدث هذا ؟!...
لقد افقد (أدهم) محاميه وعيه، ثم ألصق على وجهه قناعاً مطاطياً رقيقاً، لا يخفى ملامحه الأصلية، بحيث يبدو وكأنه ينتحل شخصية أخرى ..
فلماذا؟!...
لماذا؟!...
لماذا؟!...
عجز عقله مع توتره عن استيعاب الموقف كله، وحاول أن يستعيد تاريخ (أدهم)، من صفحات ملفه، التى اختزنها فى عقله، ولكنه لم يجد سابقة لهذا ابداً ..
وزاد هذا من غضبه ...
ذلك المصرى يعبث به، على نحو لم يتوقعه ...
بل هو يسخر منه، ومن قوته ...
ولكن يبقى السؤال ...
أين ذهب  ؟!...
أين ؟!...
أين ؟!...
" فليتم فحص وجوه الجميع ..."...
ألقى الأمر فى توتر ملحوظ أدهش رجاله، إلا أنهم نفذوا الامر فى طاعة، مما التهم منهم ثلاث عشرة دقيقة أخرى، قبل أن يغمغم قائدهم فى حذر :
    - الجميع تم فحصهم، والنتيجة سلبية .
أجابه البارون فى شراسة :
    - لم يتم فحص وجهك أنت .
غمغم الرجل فى دهشة :
    - أنا ؟!
أجابه البارون فى صرامة :
    - يجب أن تدرك أن الثعلب، الذى تسعون خلفه، واسع الحيلة، إلى حد يستحيل تصوًَّره، ويمتلك من المهارات والقدرات ما اعجز نظماً كاملة عن القضاء عليه، والسبيل الوحيد لمواجهته، هو ألا تترك احتمالاً واحداً، دون فحصه جيداً .
لم يبد الارتياح على وجه الرجل، إلا أنه أمر أحد رجاله بفحص وجهه، فقام الرجل بعمله على أكمل وجه، والبارون يراقبه عبر الشاشة الكبيرة، قبل أن يقول :
    - فليكن... من المؤسف أن ذلك الثعلب المصرى قد ربح هذه الجولة أيضاً، وترك خلفه لغزاً عجزنا عن تفسيره.
صمت لحظات مفكراً، وقد احنقه أن يختفى (أدهم) هكذا، إلا أن فكرة ما قفزت إلى رأسه، فقال فى سرعة، حملت معها كل توتره :
    - هل فحصتم ممرات الهواء ؟!
كانت ممرات عبارة عن سلسلة من الانابيب الواسعة، تدور حول المنزل كله، وهى فى اتساعها تكفى لزحف رجل رشيق ...
ولم يكن الرجال قد فحصوها بالفعل ...
ولكنهم، وبناءاً على أوامره، انطلقوا يفحصونها ملها، ثم أطلقوا فيها قاذفات اللهب، المزوًَّدة بها مدافعهم الحديثة، وصرخ (توبلكس) فى يأس :
    - سيًَّدى البارون ... أنكم تدمرون منزلى .
زمجر البارون، عبر الشاشة الكبيرة، وهو يقول فى شراسة :
    - اصمت .
اطبق (توبلكس) شفتيه مرغماً ، وإن شعر بغضب شديد، مما يفعلونه بمنزله، ولكن البارون عاد يسأله فى حدة :
    - ألديك أية منافذ سرية فى منزلك ؟!
هزًَّ (توبلكس) رأسه نفياً ، وغمغم فى قهر :
     كًَّلا .
أدار البارون بصره فى البهو، عبر آلة التصوير فى الشاشة، ثم قال لقائد رجاله :
    - اشعلوا النار فى المدفأة .
أشعل الرجل النار كما أمر، ثم التفت إليه، ينتظر أوامر أخرى، ولكن البارون، قال فى حدة :
    - مهما بلغت مهارته، فهو لم يتلاشى حتماً .
وقف الرجال حائرين، لا يدرون ماذا يفعلون، بعد أن فحصوا كل شبر من المكان أكثر من مرة، ونفذوا كل أوامره، وأوشكت الشمس على الشروق، وتلك الازياء العسكرية، ذات اللون الاحمر الزاهى، والتى يصر البارون على اختيارها لرجاله، ستلفت إليهم الانظار حتماً، فى وضح النهار ...
ولقد صمت البارون طويلاً، محاولاً هضم الأمر ...
أو بمعنى أدق ... هضم الهزيمة ...
كان رجلاً اعتاد القوة والسطوة، ولم يكن من السهل عليه تقبًَّل خسارة جولتين متتاليتين، على هذا النحو المستفز ...
إلا أنه كان يدرك أنه من الذكاء وحسن الإدراك، أن يتقبًَّل المرء هزيمة مرحلية، مادام يدرك أن معركته مع خصم ليس بالهيًَّن، وستحتاج إلى صراع طويل ...
ولأنه لا يملك سوى هذا، اعتدل البارون على عرشه الاحمر، وقال لرجاله فى لهجة آمرة صارمة :
    - فليكن ... انصرفوا جميعاً الآن، واحضروا (توبلكس) إلى مكتبى، مع اثنين من رجالنا المدنيين .
غمغم (توبلكس) فى عصبية :
    - أظننى احتاج إلى تبديل ثيابى أوًَّلاً .
قال البارون فى صرامة، وقد لاحظ لأوًَّل مرة، سروال (توبلكس) المبتل :
    - أمامك خمس دقائق لا غير .
مطًَّ (توبلكس) شفتيه، وغمغم فى ضيق، وهو يتجه إلى سلم الطابق الثانى :
    - سأحاول .
أطفأ البارون شاشة الاتصال من ناحيته، ثم تراجع فى مقعده، وانعقد حاجباه فى شدة، وهو يسأل نفسه ألف سؤال ...
من الواضح أن ذلك الملف لم يوف (أدهم صبرى) حقه ...
إنه خصم أوسع حيلة من ثعلب ماكر ...
وسيعنى هذا جولات طويلة من الصراع، مل لم يجد وسيلة قوية لربح المعركة ...
ولكن ما هى تلك الوسيلة ؟!...
هل سينتظر أن يضرب (أدهم) ضربته القادمة أوًَّلاً، أم يأخذ هو زمام المبادرة ؟!...
كانت عشرات الأسئلة تعربد فى رأسه، ولكنها انزاحت جميعاً؛ ليبقى السؤال الأهم ...
أين أختفى (أدهم)، من منزل محاصر بجيش من الرجال؟!...
أين ؟!...
أين ؟!...
______________________________________________


الفصل السادس: أين؟


" هذا غير منطقى  "...
غمغم (قدرى) بالعبارة فى غضب، وهو يجلس داخل طائرة (مصر) للطيران، المتجهة إلى (نيويورك)، فتمتمت (منى)، دون أن تلتفت إليه :
    - ماذا هناك ؟!
أجابها فى حدة :
    - الطعام هنا غير كاف ... هل يتوقعون أن أقضى احدى عشرة ساعة فى الطائرة، بوجبتى طعام فحسب ؟!
سألته، وهى تغلق عينيها :
    - ماذا تفعل فى رمضان إذن ؟!
أجابها فى حدة :
    - هذا أمر مختلف .
ثم استطرد فى حنق :
    - ثم ان كمية الطعام فى كل وجبة، لا تكفى طفلاً صغيراً .
غمغمت :
    - (قدرى) ... إنك ترهقنى باهتمامك المبالغ فيه بالطعام ... ألا يمكنك أن تنشغل بامر آخر ؟!
سألها بنفس الحنق :
    - مثل ماذا ؟!
التفتت إليه، قائلة فى غضب :
    - مصير (أدهم) مثلاً .
هزًَّ كتفيه المكتظين، قائلاً :
    - (أدهم) رجل ناضج، يجيد رعاية شئونه بنفسه .
سألته فى غضب :
    - ألم تقرأ مثلى تلك التقارير، عن النشاطات الخفية، لمنظمة ذلك البارون الاحمر .
عاد يهز كتفيه، قائلاً :
    - وماذا فى هذا؟!... لقد واجه (أدهم) من هم أكثر خطورة منه، ولم ينتصر عليه أحدهم .
أشاحت بوجهها عنه، وهى تقول فى سخط :
    - برودك هذا يستفزنى .
أجابها فى هدوء :
    - ليس بروداً، ولكنه ثقة ... إننى أعرف (أدهم) قبل أن تعرفيه، وخضت معه معارك، يشيب لهولها الولدان، وادرك جيداً أنه قادر على مواجهة أى خصم، مهما بلغت قوته .
قالت فى عصبية :
    - ليس فى كل مرة تسلًَّم الجرًَّة ..
غمغم :
-    وهل بيدنا الآن ما نفعله ؟!
قالها، ثم استوقف مضيفة الطائرة، متسائلاً فى توتر :
    - معذرة ... ألا توجد فى مطعم الطائرة، وجبة كافية لرجل مثلى .
ابتسمت المضيفة، وهى تنظر إلى كرشه الضخم، وقالت :
    - سارى ما يمكننى فعله .
هتف فى حماس أضحكها :
    - أرجوك .
شعرت (منى) بالضيق، من أسلوب (قدرى)، على الرغم من اعتيادها إياه، ولكنها لاذت بالصمت تماماً، وهى تتساءل فى أعماقها: ترى هل سيعبر (أدهم) هذه المواجهة الرهيبة بسلام ؟!...
هل ؟!...
*            *            *
عقد (توبلكس) حاجبيه فى حنق، وهو يجلس داخل السيارة، التى يقودها أحد رجال البارون، بزيه الأحمر المستفز، فسأله قائد الرجال،الذى يجلس إلى جواره :
    - هل أغضبك استدعاء البارون لك ؟!
أجابه فى سرعة :
    - كًَّلا .
ثم أضاف فى غضب :
    - ولكن ما فعلتموه بمنزلى أثار جنونى .
بدا الرجل صارماً، وهو يقول :
    - البارون سيعوًَّضك عن كل هذا .
تمتم (توبلكس) بنفس الحنق :
    - إنه يفعل دوماً .
قال (توبلكس) فى حدة :
    - هل يمكنك أن تهتم بشؤنك وحدها ؟!
بدا الغضب واضحاً فى صوت الرجل، وهو يقول :
    - هذا أفضل .
لم يتبادل احدهما مع الأخر حرفاً واحداً، حتى وصلا إلى مكتب البارون، الذى يقع فى بناية ضخمة، فى قلب (مانهاتن)، وبقى الرجل فى السيارة، قائلاً :
    - ستهبط وحدك، فهذا الزى الاحمر سيثير انتباه المنطقة كلها .
غادر (توبلكس) السيارة، وهو يغمغم فى سخط :
    - لا تقلق ... سيعوًَّضك البارون عن هذا .
انعقد حاجبا الرجل فى غضب، فى حين أتجه (توبلكس) مباشرة إلى البناية، التى تعلوها لافتة كبيرة حمراء زاهية، تحمل وسطها اسم البارون بالأبيض، واستقبله حارس الأمن، قائلاً فى احترام شديد:
    - مستر (توبلكس) ... البارون ينتظرك فى مكتبه .
استسلم (توبلكس) لرجال الامن، الذين قاموا بتفتيشه جيداً، على الرغم من معرفتهم به، ومرًَّروه عبر بوًَّابة اليكترونية لكشف المعادن والأسلحة، وبعدها سمحوا له بالدخول، وصحبه أحدهم إلى مصعد خاص، واصطحبه حتى الطابق العلوى من البناية، حيث مكتب البارون، وأمامه غمغم :
    - البارون سمح لك بالدخول .
دلف (توبلكس) إلى مكتب البارون، الذى أشار إليه بالجلوس على مقعد بعيد، وهو يقول فى غضب:
-    حماقتك جعلتنا نخسر الكثير يا (توبلكس) .
غمغم (توبلكس) فى توتر:
    - لم اكن أتصوًَّر ...
قاطعه البارون بضربة غاضبة من راحته، على سطح مكتبه، وهو يصرخ فيه :
    - تتصوًَّر ؟!... ومن سمح لك أن تتصوًَّر ؟!...مهمتك ليست أن تضع الخطط والاساليب يا رجل ... البارون وحده يفعل هذا، وعلى كل من يتبعه ان ينفذ اوامره فحسب، ودون أية مناقشة أو تغيير .
بدت حيرة مرتبكة على وجه )توبلكس)، وهو يقول :
    - كيف يمكننى أن اعتذر ؟!
صرخ فيه البارون، فى غضب أكثر :
    - تعتذر ؟!... عن أى شئ يمكن أن تعتذر أيها الاحمق؟!... لقد خسرت بسببك أهم جولتين فى الصراع ... جولتى المواجهة، اللتين اما أن يفقد الخصم ثقته بعدها، او يزداد قوة .
صمت (توبلكس) تماماً، دون أن يجيب، فرمقه البارون بنظرة غاضبة، استغرقت بضع لحظات، ثم قال فى صرامة قاسية :
    - لقد أمرت بتفتيش منزلك مرة اخرى .
رفع المحامى بصره إليه فى دهشة، وهو يقول :
    - ولماذا ؟!..
صاح به فى حدة:
    - تسألنى لماذا ؟!... لأننا لم نعثر على خصمنا بعد يا هذا ... لقد كنا واثقين من انه فى منزلك، عندما حاصرناه فى إحكام، وعلى الرغم من هذا، فلم نعثر له على أثر، بعد ساعات من تفتيش كل شبر.
سأله المحامى فى قلق :
    - وماذا ستضيف مرة ثالثة ؟!
اجابه فى صرامة :
    - الكثير .
وصمت لحظة، ثم اضاف فى قسوة :
    - ثم أنك تحتاج إلى منزل آخر، أكثر تطوراً .
سأله (توبلكس) فى دهشة :
    - ما الذى يعنيه هذا بالضبط ؟!.
مال البارون على مكتبه، وقال :
    - يعنى أننى سأبتاع منزلك هذا .
صمت لحظة؛ ليرصد الحيرة على وجه (توبلكس)، قبل أن يضيف بكل القسوة :
    - وأحرقه .
اتسعت عينا (توبلكس)، وهو يهتف مستنكراً :
    - تحرقه ؟!
أجاب البارون فى شراسة :
    - ذلك المصرى لن يربح منى جولة ثالثة، مهما كان الثمن ... إنه يختبئ فى مكان ما هناك؛ فالمنزل محاصر بطاقم مدنى من رجالى، ولم يرصده أحدهم يغادره بعد انصرافكم ... وهذا يعنى أنه مازال هناك ... وفى هذه اللحظة، التى نتحدًَّث فيها، يقوم فريق آخر بإعادة تفتيش المنزل للمرة الاخير، وتحطيم جدرانه، واى مكان فيه يصلح للاختباء، فإن لم يعثروا عليه، بعد كل هذا، سيشعلون النار فى المنزل، ويقتلون كل من يحاول مغادرته بعدها .
هتف المحامى، فى دهشة مستنكرة :
    - هكذا ؟!... فى وضح النهار ؟!
أجابه البارون، مشيراً بيده :
    - لقد احسنت اختيار منزلك، فى ذلك الحى الهادئ، على اطراف المدينة، وعندما يصل رجال الإطفاء، وهذا يحتاج منهم فى المعتاد إلى اثنتى عشرة دقيقة، تكون مهمة الرجال قد انتهت .
قال (توبلكس) فى عصبية :
    - سيًَّدى البارون ... أنت تعلم أن هذا المنزل ...
قاطعه البارون فى شراسة :
    - يحوى الكثير من الذكريات العاطفية، وكًَّلفك بأثاثه، ما يزيد عن خمسة ملايين دولار، ولهذا سأشتريه بعشرة ملايين .
قال المحامى، فى عصبية اكثر :
    - ليست مسألة نقود، وإنما ...
قاطعه البارون فى وحشية :
    - هذا أمر .
تراجع المحامى فى مقعده، وبدت عليه علامات الغضب والاستنكار، فأضاف البارون، بنفس الوحشية :
    - أنت تعلم كيف أتعامل، مع من لا يطيعون أوامرى .
غمغم المحامى فى استسلام :
    - أعلم أيها البارون .
رمقه البارون بنظرة قاسية، ثم قال فى صرامة :
    - رجالى أستولوا بالفعل على مزرعة (صاندو) .
هتف (توبلكس) مستنكراً :
    - استولوا عليها ؟!... ولكن هذا غير قانونى أبداً .
زمجر البارون، وهو يقول :
    - ولهذا أحضرتك إلى هنا .
مطًََّ (توبلكس) شفتيه، وقال :
    - وماذا يفيد محام، فى عملية استيلاء ؟!
  أجابه البارون فى خشونة:
    - يقوم بعمله .
ثم استطرد فى لهجة آمرة قاسية :
    - ستعد كل الاوراق اللازمة لعملية البيع، فى انتظار توقيع ذلك المصرى عليها .
غمغم المحامى :
    - قلت : إنك ستقتله
مال البارون على مكتبه، وهو يقول :
    - ولكنه سيوقًَّع الأوراق .
سأله فى حنق :
    - كيف ؟!
ارتسمت ابتسامة واثقة على شفتى البارون، وهو يقول :
    - ستدهشك عبقريتى فى هذا الشأن .
تطلًَّع إليه المحامى بضع لحظات، محاولاً أن يستشف ما تعنيه العبارة، قبل أن يغمغم :
    - كنت أتمنى أن أعرف .
واستدرك فى سرعة :
    - حتى استعد للتصرفات القانونية على الأقل .
زمجر البارون مرة اخرى، وهو يقول :
    - كل ما عليك هو ان تستعد .
صمت المحامى لحظة، ثم تمتم :
    - فليكن .
ارتفع رنين الهاتف الخاص للبارون، فى هذه الحظة، فالتقط سمًَّاعته، وهو يقول فى ظفر :
    - اتعشًَّم أن يبلغونى بأمر عثورهم عليه .
رفع السماعة إلى أذنه، وقال فى صرامة :
    - هل فعلتموها ؟!...
انعقد حاجباه فى شدة، واحتقن وجهه على نحو عجيب، وهو يستمع إلى محًَّدثه، فاعتدل (توبلكس) على مقعده، وقال فى سخرية، لا تناسب شخصيته، او صوته المألوف :
    - هل أخبروك أنهم قد عثروا على (توبلكس) ؟!
قبل حتى أن يرفع البارون عينيه إليه، كان الرجل يثب وثبة مدهشة، نقلته من منتصف الحجرة الكبيرة، إلى مكتب البارون، الذى سقطت سمًَّاعة الهاتف من يده، فى حين التقطت يد الرجل فتًَّاحة خطابات رفيعة، ووضعها على عنقه مباشرة، وهو يقول بنفس السخرية :
    - هًَّلا اعدت حديثك عن الجولة الثالثة .
وكاد قلب البارون يتوًَّقف مع الصدمة :
    - فالرجل الواقف إلى جواره، ويضع آداة حادة على عنقه، هو غريمه، الذى كان يحلم بموته منذ لحظات ...
كان (أدهم) ...
(أدهم صبرى) ...
وبكل ذهول الدنيا، غمغم بصوت مختنق :
    - ولكن كيف ؟!
وكان هذا هو السؤال بالفعل ...
كيف ؟!
*            *            * 


______________________________________________


الفصل السابع: كيف؟


التقط (قدرى) نفساً عميقاً، من هواء (نيويورك) البارد، وهو يقول فى حماس :
- أخيراً وصلنا إلى أرض يمكن السير عليها ... لقد كدت أنسى المشى، من طول جلوسنا .
غمغمت (منى) فى توتر :
- أنت فعلت بنفسك هذا، من تناولك ست وجبات طعام خلال الرحلة.
قال مستنكراً:
- وهل تعدين تلك العينات، التى قدموها لنا وجبات ؟!
أجابته، وهى تتلًَّفت حولها؛ بحثاً عن السيارة، التى يفترض وجودها فى انتظارهما :
- لقد أشبعتنى على الأقل .
هتف مستنكراً :
- لا تقارنى احتياجاتك باحتياجاتى يا عزيزتى ... انظرى إلى قوامك وقوامى .
حاولت ان تبتسم، وهى تقول :
- بالنسبة لك، يصعب استخدام مصطلح (قوام) هذا .
مطًَّ شفتيه لحظة، ثم عاد يتساءل فى لهفة :
- أين تلك السيارة ؟!
قالت فى توتر :
- كان المفترض أن تنتظرنا هنا .
عادت تتلًَّفت حولها، قبل أن تتوًَّقف أمامها سيارة كبيرة، اطل سائقها من نافذتها، متسائلاً :
- الأستاذة (منى)، والسيًَّد (قدرى) ؟!
حمل (قدرى) حقيبته، وهو يتجه إليه، قائلاً :
- أصبت الهدف يا رجل ... لماذا تأخرت ؟!
هبط السائق ليفتح حقيبة السيارة الخلفية، ويعاون )منى( على نقل حقيبتها إليها، وهو يجيب :
- إنه يوم الاحد ... أكثر أيام الأسبوع زحاماً، على الطرق السريعة .
سالته (منى)، وهى تدلف إلى السيارة :
- هل توصلتم إلى مكانه ؟!
تردًَّد السائق لحظة، ثم اجاب :
- ليس بعد ... ولكننا نواصل المحاولة .
انعقد حاجبا (منى)، دون ان تحاول التعليق، فى حين ساله (قدرى) فى اهتمام:
- قل لى يا رجل .. هل سنمر بأية مطاعم كبيرة فى طريقنا .
ابتسم السائق ابتسامة هادئة، وهو يجيب :
- بالتأكيد .
وانطلق بسيارته ...
* * *
أثبت رجال البارون، دون أدنى شك، أنهم يمتلكون جهازاً أمنياً قوياً، فلم يكد (أدهم) يثب نحوه، وهو فى شخصية (توبلكس)، حتى استوعبوا الموقف كله فى لحظة واحدة، واندفعوا بأسلحتهم، داخل مكتب البارون الشخصى، فى نفس اللحظة التى أحاط فيها (أدهم) عنق هذا الأخير بذراعه اليسرى، ووضع فتًَّاحة الخطابات الحادة على عنقه بيمناه ...
والعجيب أن أياً منهما، البارون أو (أدهم)، لم يبال باقتحام الرجال الحجرة، إذ تملك الذهول من البارون، وهو يهتف :
- مستحيل !... ولكن كيف ؟!... لقد فحصت وجهك بنفسى فى منزل (توبلكس) ...
أجابه (أدهم) فى سخرية :
- خطأ ... لقد فحصت وجه محاميك السخيف، الذى أضفت إليه قناعاً مطاطياً رفيعاً، يسهل كشفه .
هتف أحد رجال الأمن، يقاطع الحديث فى شراسة :
- استسلم يا رجل، وإلا ...
لم يجد ضرورة لإتمام عبارته، فشدًَّد (أدهم) ضغط ذراعه، على عنق البارون، حتى احتقن وجه هذا الأخير، و (أدهم) يقول :
- يبدو أن رجالك لم يدرسوا أبسط قواعد فن التفاوض؛ وهو ألا تستخدم لغة التهديد، مع خصم يسيطر على زعيمك .
قال البارون بصوت مختنق :
- دعك منهم، وأخبرنى كيف ؟!.. كيف فعلتها، ورجالى يراقبون المكان طوال الوقت ؟!... كيف ومتى استبدلت هويتك مع (توبلكس) ؟!... لقد فتش الرجال المنزل أكثر من مرة !!
هتف قائد الأمن، مرة أخرى فى حدة :
- أمنحك دقيقة واحدة لتستسلم .
رفع (أدهم) عينيه إليه، وقال فى سخرية:
- وعنق بارونك يحتاج إلى عشر ثوان فحسب، ليتحوًَّل إلى عظام مهشمة .
ارتبك الرجل، ولم يدر ماذا ينبغى أن يفعل، وإن ظلًَّ يصوًَّب مسدسه فى عصبية إلى (أدهم)، فى حين قال البارون فى صعوبة :
- سيًَّد (أدهم) ... إننى أختنق بالفعل .
هزًَّ (أدهم) كتفيه فى لا مبالاة، وقال فى حزم :
- وستختنق أكثر، لو أصروا على البقاء هنا .
هتف البارون برجاله، وقد اختنق صوته فى شدة :
- هل سمعتم أيها الأغبياء... هيا ... ماذا تنتظرون ...انصرفوا من هنا .
تردًَّد الرجال لحظات، فصرخ، وهو يكاد يفقد الوعى، مع ضغط ذراع (أدهم) الفولاذية على عنقه :
- قلت : انصرفوا .
لم يكن أمام الرجال، مع دقة الموقف، سوى ان يغادروا المكان، ويهرعون إلى شاشات المراقبة؛ لمتابعة الموقف ...
وفور انصرافهم، خفف (أدهم) من ضغط ذراعه، على عنق البارون، الذى استعاد قدرته على التقاط أنفاسه فى ارتياح، فقال فى شئ من الصرامة :
- سيًَّد (أدهم) ... أليس من الأفضل أن نتعامل كرجلين محترمين .
اجابه (أدهم)، فى صرامة اكثر :
- الرجال المحترمون، لا يرسلون جيشاً؛ لقتل من يتفاوضون معهم .
أجابه فى خشونة :
- أنت بدأت هذا، عندما هاجمت محامىًَّ الخاص فى منزله .
قال (أدهم) فى سخرية :
- حقا؟!... أهكذا يرى عقلك المريض الأمور ؟!
احتقن وجه البارون، وهو يقول فى حدة :
- عقلى ليس مريضاً أيها المصرى ... العالم كله- تقريباً- اعترف بعبقرية هذا العقل، الذى تصفه بالمرض .
قال (أدهم) بنفس السخرية :
- ربما لم ير العالم منك ما رأيته أنا .
كظم البارون غيظه فى صعوبة، وهو يقول :
- اسمع يا سيًَّد (ادهم) ... موضعك لا يسمح لى برؤيتك، وانا لا أشعر بالارتياح، عندما أناقش شخصاً، لا يمكننى رؤيته ... ألا يمكنك أن تقف امامى ؟!
ضغط (أدهم) على عنقه أكثر، بفتًَّاحة الخطابات الحادة، وهو يقول :
- ولكن هذا الموضع يشعرنى بارتياح أكبر .
أشار البارون إلى درج جانبى فى مكتبه، وهو يقول فى عصبية :
- افتح هذا الدرج، وستجد مسدساً محشواً، احتفظ به للطوارئ... خذه، وتأكًَّد من صلاحيته للعمل، ثم اجلس أمامى، وصوًَّبه نحو رأسى، وأنا اعلم من ملفك أنك لا تخطئ إصابة هدفك أبداً .
فتح (أدهم) درج المكتب، والتقط منه مسدساً من الذهب الخالص، له مقبض أحمر اللون على نحو مزعج، واستخدم يديه فى براعة، ليتأكًَّد من أن خزانته محشوة بالرصاصات، ثم غمغم :
- يبدو لى عرضاً جيداً .
أفلت عنق البارون، ودار ليجلس على مقعد أمام مكتبه مباشرة، وهو يصوًَّب إليه مسدسه، فتحسًَّس البارون عنقه، وهو يقول :
- هذا أفضل بالتأكيد .
ثم مال نحو (أدهم)، قائلاً :
- ترى كيف تخطًَّط للخروج من هنا، وأنت تعلم أن أطقم الحراسة، فى المبنى كله، شديدة التحفًَّز بشأنك، وانهم يراقبوننا الآن، عبر شاشات الامن، المنتشرة فى الحجرة ؟!
ابتسم (أدهم)، قائلاً :
- لا تقلق نفسك بهذا الشأن .
ضم البارون شفتيه فى غيظ، ولكنه واصل بذل الجهد؛ للحفاظ على أعصابه، وهو يقول :
- فليكن ... سنطرح هذا السؤال جانباً، ولكن سيبقى سؤال، لن احتمل عدم الاجابة عنه طويلاً .
سأله (أدهم) فى لا مبالاة :
- وهو ؟!
مال نحوه بشدة، وحمل صوته كل انفعالاته، وهو يسأله:
- كيف فعلتها ؟!... كيف أمكنك أن تختفى فى منزل (توبلكس)، وتنتحل هيئتة، على الرغم من كل ما فعله فريقى هناك ؟!..
صمت (أدهم) لحظة، ثم قال، فى شئ من السخرية:
- من اهم الامور فى عالمنا، ألا تكشف أسلوبك أبداً للعدو .
هتف البارون محنقاً:
- سَّيًد (أدهم) .... لن يمكننى الاحتمال .
صمت (أدهم) لحظة أخرى، ثم قال فى هدوء :
- لقد كان امراً بسيطاً ... أبسط مما تتصوًَّر بكثير .
قالها، وذاكرته تعود إلى تلك الفترة القريبة ...
القريبة جداً ...
* * *
ارتفع صوت سيارات رجال البارون، وهى تتوقف حول منزل (توبلكس)، وهتف هذا الاخير فى تشف :
- أرأيت .
عاجله (أدهم) بلكمة قوية فى فكه، وهو يقول :
- ليس بعد .
اتسعت عينا المحامى مع اللكمة، ودار رأسه فى عنف، ثم سقط فاقد الوعى، على مقعده الوثير.
وفى سرعة مدهشة، تحًَّرك (أدهم) ...
كان كعادته، قد استعد لكل الاحتمالات مسبقاً، فأخرج من جيبه قناعاً بسيطاً شفافاً، الصقه على وجه (توبلكس)، متجاهلاً وقع الأقدام، التى تقترب منه فى سرعة، وبعدها اتجه نحو المدفأة، وعبر فتحتها الكبيرة، ثم راح يتسلقها من الداخل، مستخدماً ضغط ذراعيه وساقيه ...
لم يكن صعود المدفأة من الداخل يسيراً، إلا أنه بذل جهداً جباراً، وهو يواصل تسلقها، حتى بلغ سطح المنزل ...
ولأنه استعد لمثل هذا الامر، كان يرتدى حلة سوداء، مع قميص من اللون نفسه، عندما ذهب ليفاجئ المحامى فى منزله ...
ومع زيه، الذى أخفاه وسط الظلام، غادر المدفأة فى خفة، ثم رقد على سطح المنزل المائل، وألصق جسده به بقوة ...
وعبر المدفأة، استمع إلى ما يحدث داخل المنزل ...
وفى صبر، انتظر ...
وانتظر ...
وانتظر ...
وبعد ساعات من تفتيش متصل، نقلت إليه الدفأة حديث الرجال مع البارون، وصوت (توبلكس)، وهو يطلب منهم استبدال ثيابه، قبل أن يرافقهم إليه ...
وبمنتهى الحذر، زحف (أدهم) على السقف المائل، حتى بلغ نافذة العلية، وهى جزء يعلو المنازل الامريكية، ويستخدم لتخزين الأشياء الزائدة، وعالج رتاجة فى مهارة، حتى استجاب له وانفتح، وهنا، انزلق داخل العلية، دون أن يلمحه جيش الرجال، الذى يحيط بالمنزل....
كان من السهل بعدها هذا، أن يفاجئ (توبلكس)، وهو يستبدل ثيابه، ويفقده الوعى، ثم يستخدم قناعاً لوجهه، أعدًَّه منذ أوًَّل لقاء بينهما فى (القاهرة)، وارتدى بعض ثيابه، ثم هبط فى هدوء؛ ليستقل السيارة، مع قائد الفريق ...
وهكذا، ودون خطط معقًَّدة، وصل إلى مكتب البارون، والتقى به شخصياً ...
* * *
" سيًَّد (أدهم) ... مازلت فى انتظار الجواب "..
نطقها البارون فى حنق واضح، فابتسم (أدهم) فى سخرية، وقال :
- أخبرتك مسبقاً أيها البارون... من الخطأ، كل الخطأ، ان تكشف أوراقك لعدوًَّك .
رفع البارون سبًَّابته، وهو يقول فى صرامة :
- إلا لو كنت مضطراً .
هزًَّ (أدهم) كتفيه، وهو يقول :
- ليس بالضرورة...
ثم رفع سبًَّابته بدوره، مستدركاً :
- إلا إذا أجبتنى عن سؤال بالمقابل .
سأله البارون فى حذر :
- أى سؤال ؟!
مال (ادهم) نحوه، وهو يقول فى حزم :
- لماذا مزرعتى بالتحديد؟!... ولماذا اللون الاحمر ؟!
صمت البارون لحظة بوجه جامد، ثم قال فى صرامة :
- قلنا سؤالاً وليس سؤالين يا سيًَّد (أدهم).
اعتدل (أدهم)، وهو يقول بابتسامة شبه ساخرة :
- فلنتنازل إذا عن السؤال الثانى؛ إذ سيكون جوابه، إما أنك تستخدم هذا اللقب؛ تيمناً بجدك الاكبر، الذى حمله فى الحرب العالمية الاولى، أو ...
صمت لحظة، ثم عاد يميل نحوه، مضيفاً :
- أو لأنك تخطط لإنشاء حزب نازى جديد .
رمقه البارون بنظرة جامدة، توحى بأن (أدهم) قد أصاب أحد الهدفين، فتابع (أدهم)، وهو يعتدل مرة اخرى :
- وهنا يمكن ان يجيب السؤال الأوًَّل، فمزرعتى تمتاز باتساع رقعتها، وبعدها عن خطوط الطيران الرسمية، وبأن الجبال تحيط بها من كل جانب، مما يجعلها موضعاً مثالياً لــ ...
بتر عبارته دفعة واحدة، وتطلًَّع إلى عينى البارون مباشرة؛ ليدرس رد فعله، وهو يضيف :
- لنواة دولتك النازية الجديدة *
اضطربت عينا البارون لحظة، قبل أن يستعيد سيطرته على ملامحه فى سرعة ...
ولكن تلك اللحظة لم تغب عن عينى (أدهم) ...
لقد أصاب هدفه بالفعل ...
وبمنتهى الدقة ...
وعلى شفتيه، ارتسمت ابتسامة ظافرة، وهو يقول :
- أظن أنك الآن، مضطر للاعتراف، بأننى قد ربحت الجولتين، الثالثة والرابعة أيها البارون
بدا البارون شديد القسوة والصرامة، وهو يقول :
- ليس بعد .
ومع أخر كلماته، اقتحم جيش من رجال الامن الحجرة ...
وبمنتهى العنف ...
وفى أقل من الثانية، كانوا جميعهم يصوًَّبون أسلحتهم إلى رأس (أدهم) ...
وشعر البارون بدهشة حقيقية، عندما ظل (أدهم) محتفظاً بثباته، وهو يقول :
- ترى هل يعلم شياطينك أنهم، حتى ولو أطلقوا رصاصاتهم نحوى، فستكون لدى ثانية على الأقل؛ لأنسف رأسك برصاص مسدسى .
أجابه البارون فى قسوة:
- ما سيطلقونه عليك ليس رصاصات أيها المصرى، بل أسهم مخدًَّرة سريعة المفعول، ولقد أدركوا ما ينبغى عليهم فعله، فور أن رأوك تحمل مسدسى، وتصوًَّبه إلى .
ومال إلى الامام، مضيفاً فى تشف :
- فكل أسلحتنا إليكترونية يا رجل، وأى سلاح لا ينطلق، إلا إذا تعًَّرف بصمة صاحبه .
ضغط (ادهم) زناد المسدس بالفعل ...
ولكن البارون كان على حق ...
فالزناد لم يستجب ...
أبداً ...
وفى نفس اللحظة، اطلق الرجال أسهمهم المخدًَّرة ...
وشعر (أدهم) بوخزات مؤلمة، فى كل مكان فى جسده تقريباً .
وبينما دار رأسه فى شدة، لمح البارون ينهض من خلف مكتبه، قائلاً فى صرامة وحشية :
- كان ينبغى أن تدرك أن البارون يربح معاركه دوماً أيها المصرى .
وبعدها، غامت عينا (أدهم)، وفقد عقله الإحساس بما حوله ...
وسقط ...
فى قلب عرين العدو .



______________________________________________


الفصل الثامن: الأسير


" أظننا سنتوَّقف هنا ..."...
ارتفع حاجبا (قدرى) فى دهشة، عندما نطقت (منى) هذه العبارة فى صرامة، وهى تجلس إلى جواره، فى المقعد الخلفى للسيارة، التى أقلَّتها من المطار، وأدهشة أكثر، أن أجابها السائق، فى صرامة مماثلة :
    - لست اظن هذا .
وفى اللحظة التالية، بلغت دهشة (قدرى) ذروتها، عندما اندفعت (منى) إلى الامام فجأة، واحاطت عنق السائق بذراعها اليسرى، وهى تقول فى لهجة آمرة :
    - بل سنفعل .
جاء رد فعل السائق ليحوًل دهشته إلى ذهول، عندما مال بالسيارة إلى جانب الطريق، وسحب من حزامه مسدساً، حاول أن يلف معه ذراعه؛ ليصوًب إلى رأس (منى)، التى أمسكت معصمه بيمناها فى قوة، وهى تقول :
    - هذا ما توقعَّته .
ثم دفعت رأسها إلى الامام فى قوة، لتضرب السائق فى مؤخرة عنقه، فى نفس اللحظة التى لوت فيها معصمه فى قوة، أجبرته على إفلات مسدسه، الذى سقط بين قدمى (قدرى)، وهذا الاخير يهتف :
    - ماذا يحدث ؟!
ولم تجبه (منى)، وهى تفلت معصم السائق، ثم تلكمه فى مؤخرة عنقه بكل قوته مرة ...
وثانية ...
وثالثة ...
وعلى الرغم من أن السائق يفوقها قوة بكثير، فقد دار رأسه مع ضرباتها القوية، وحاول بأصابع مرتجفة، التقاط جهاز اتصال مجاور، إلا أن اللكمة الرابعة جعلت رأسه يندفع إلى الامام، ويرتطم بإطار السيارة، التى توقًفت بصرير مزعج، على جانب الطريق ...
وفى سرعة، انحنت (منى) تلتقط مسدس السائق، وهى تهتف :
    - هيا بنا .
فتحت باب السيارة، وقفزت منه إلى الشارع، وهى تخفى المسدس فى طيات ثيابها، وهتف (قدرى)، وهو يغادر السيارة فى صعوبة :
    - ماذا حدث ؟!
أجابته، وهى تجذبه بعيداً عن السيارة :
    - إنه ليس سائقنا .
هتف لاهثاً، وهو يحاول مواكبة سرعتها :
    - وكيف علمت ؟!
أجابته، وهى تنحرف معه، من شارع إلى آخر :
    - لقد تردًد عندما سالته، عما إذا كانوا قد عثروا على (أدهم) أم لا، وكان من الواضح أنه يجهل عما أتحًدث.
هتف، ولهاثه يتزايد، مع ارتجاج جسده الضخم، من سرعة سيرها :
    - وماذا فى هذا ؟!... إنه مجَّرد سائق !!
قالت، وهى تشير إلى واحدة من سيارات الأجرة الصفراء :
    - كان ينبغى أن يقول : إنه لا يعلم، ولكن محاولته الإجابة كشفت أمره.
توقًف يلهث فى شدة، عندما توقفًت أمامها سيارة الأجرة، وسمعها تقول للسائق :
    - (بورت أوثورتى).
سألها، وهو يدخل السيارة خلفها :
    - ما هذا ؟!
أجابته فى حزم:
    - نقطة تجمع المواصلات فى (مانهاتن)? ... لن يتوقعوا أن نستقل حافلة عادية.
ارتفع حاجباه مرة أخرى فى دهشة، ولكنه لاذ بالصمت، حتى وصلوا إلى المكان، وهناك سألها :
    - من هؤلاء، الذين تقصدينهم ؟!... وإلى أين سنذهب ؟!
أجابته، وهما يتجهان إلى موقف الحافلات :
    - ألم تفهم بعد ؟!... هناك من راقب تحركاتنا، وأبلغ رجال البارون أننا استقلينا الطائرة إلى هنا، فأرسل من ينتظرنا .
غمغم فى توتر:
    - يا إلهى !
أجابته فى حزم :
    -  سنفعل مالا يتوقعونه، كما علمنى (أدهم) ... سنستقل الحافلة إلى مدينة (سيكوكاس)، فى نيوجيرسى ... لدينا منزل آمن هناك، وهى تبعد خمس عشرة دقيقة فحسب عن (نيويورك).
لهث من الانفعال هذه المرة، وهو يقول :
    - هذا يعنى أن موقفنا شديد الحساسية .
قالت فى حزم :
    - ويعنى أيضاً أن معركتهم مع (أدهم) لم تحسم بعد، وإلا ما حاولوا استخدامنا للسيطرة عليه .
غمغم، مع وصول الحافلة :
-    ويعنى أيضاً أننا فى خطر ... خطر كبير ...
وكان على حق فى قوله ...
تماماً ...
*            *            *
ارتجاجات السيارة القوية، جعلت (أدهم) يستعيد وعيه فى بطء ...
لم يدر كم ظل تحت تأثير المخدًر القوى، ولكن حرارة الطقس من حوله، وسخونة تلك القيود الحديدية، التى تربطه إلى مقعد معدنى ثقيل، مثبت فى أرضية صندوق السيارة، الذى يرقد فيه، جعلاه يدرك أنه حتماً لم يعد فى (نيويورك)....
وتلك الوسيلة، التى ترتج بها السيارة، توحى بأنها تسير على أرض غير ممهًدة ...
ومع صفاء ذهنه تدريجياً، أدرك أنه قد تم نقله، بوسيلة ما، إلى صحراء (المكسيك) ...
وربما يتجهون به الآن نحو مزرعته ...
نعم ...
هذا هو التفسير الأكثر منطقية ...
فتح عينيه قليلاً، ورأى الرجلين القويين، اللذين يجلسان إلى يمينه ويساره، وبيد كل منهما مدفعاً آلياً قوياً، بقاذفة لهب صغيرة، فعاد يغلق عينيه، متظاهراً بأنه لم يستعد وعيه بعد، فسمع أحدهما يقول بالأسبانية :
    - هل رأيت ؟!... لقد استعاد وعيه ؟!
دفعه الآخر بقدمه مرتين، فلم يصدر (أدهم) أى رد فعل، مما جعله يغمغم فى صرامة، باللغة نفسها:
-    ليس بعد .
قال الأوًل فى عصبية :
    - لقد فتح عينيه وأغلقهما .
زمجرالثانى، قائلاً :
    - رأيت مصابين بالغيبوبة المرضية يفعلون هذا، ويواصلون غيبوبتهم ... اهدأ يا رجل ... سنصل عما قريب، وتنتهى مهمتنا .
صمت الأوَّل لحظات، ثم لم يلبث أن قال فى عصبية :
    - مادام بالخطورة التى يتحدثون عنها، فلماذا لا نقتله وننهى الامر ؟!
أجابه الثانى فى قسوة :
    - البارون أمر بأن يبقى حياً، حتى يصل إلى هنا .
غمغم الأوَّل :
    - لست ادرى لماذا ...
قاطعه الثانى فى شراسة، قبل أن يتم عبارته :
    - إننا لا نتقاضى ذلك الأجر المجزى، حتى ندرى أو لا ندرى يا رجل ...إننا ننفذ الأوامر فحسب .
بدا الأوَّل متبرماً، وهو يقول :
    - فليكن ... ربما يكون وقوعه فى قبضة سنيور (ألنزو) مأساوياً، أكثر من الموت نفسه .
خزَّن (أدهم) كل تلك المعلومات فى ذهنه، وظل متظاهراً بالغياب عن الوعى، حتى توقفت السيارة أخيراً، وسمع صوتاً  أنوثياً، يقول بلهجة آمرة :
    - لماذا تأخرتما ؟!
أجابها الثانى متوتراً:
    - لقد جئنا به، فور هبوط الطائرة يا سنيورا.
أجابتهما فى صرامة :
    - حسن .... سنتولى أمره من هنا .
فتح أحدهم الباب الخلفى لصندوق السيارة، إثر عبارتها، وشعر (ادهم) بأياد قوية، تحيط معصميه بأغلال فولاذية أخرى، ربطوها فى أرضية السيارة، قبل ان يحلوا أغلاله الاولى، ثم سحبوا الأرضية كلها خارج السيارة، فضربت أشعة الشمس القوية وجهه، مما جعله يغلق عينيه فى قوة، كرد فعل غريزى، فقالت صاحبة الصوت الانثوى، فى لهجة تجمع بين الصرامة والسخرية :
    - لا داع لمزيد من التظاهر يا سنيور (ادهم)، فكمية المخدر، التى دخلت جسدك القوى، لا تكفى لتخديره كل هذه الفترة.
فتح (أدهم) عينيه فى بطء، مع ضوء الشمس القوى، ووقع بصره على حسناء ممشوقة القوام، خمرية البشرة، ذات عينين واسعتين سوداويين، وشعر ناعم طويل شديد السواد، تبتسم فى ظفر، قائلة :
    - مرحبا بك فى مزرعتك سابقاً .
قال فى هدوء:
    - وحالياً .
ابتسمت فى سخرية، وهى تقول :
    - أمازلت تحلم  ؟!
كانت محاطة بعدد من الرجال الأقوياء المسلحين، وكل منهم يرتدى ذلك الزى العسكرى الاحمر المستفز، ويحمل مدفعاً من الطراز نفسه، الذى حمله حارساه طوال الطريق، وعبر عبارتها مباشرة، حمل أربعة منهم أرضية السيارة، واتجهوا بها إلى داخل مبنى المزرعة، وهى تسير إلى جواره، قائلة :
    - يدهشنى ان البارون يتعامل معك، بأسلوب يخالف كل ما اعتدناه منه؛ فلقد أعد لك جناحاً فاخراً، داخل المزرعة، ولم يأمر بسجنك مع الآخرين، فى أسطبل الخيل .
قال فى سخرية :
    - يالها من مشاعر رقيقة !
هزًت كتفيها، قائلة :
-    هذا لا يروق لى فى الواقع، ولكن لا أحد يجرؤ على مخالفة أوامره.
سألها، وهم يصعدون بمحفته المعدنية إلى الطابق الثانى :
    - ولماذا هذه الرقة فى رأيك ؟!
ابتسمت فى سخرية، وقالت :
    - لا احد يجيب الأسئلة هنا، سوى البارون نفسه .
وصل الركب إلى حجرة (أدهم) القديمة فى المزرعة، ولاحظ على الفور أن نوافذها الثلاث قد أغلقت بقضبان من الصلب القوى، فى حين توزًع أكثر من عشرة رجال فى كل أركانها، يصوبوًن إليه مدافعهم الآلية، وهى تكمل :
    - ستروق لك الإقامة هنا يا سنيور (أدهم)؛ لو أنك لم تقم بأية محاولة حمقاء للفرار، وستجد ثيابك كلها فى دولابك، لم يعبث بها أحد، كما ستتناول ثلاث وجبات ساخنة يومياً، مع ملاحظة أن النوافذ كلها موصولة بتيار كهربى قوى، يكفى لقتل فيل فى لحظات، والباب موصول بجهاز تفجير خاص، بحيث ينسف الحجرة كلها، إذا ما حاولت اقتحامه بالقوة، بالإضافة إلى أننا قد زوًدنا المكان، بما فيه حمامك الخاص، بعدد كبير من الكاميرات الخفية، التى ستنقل لطاقم الحراسة كل همسة منك هنا .
غمغم (أدهم) فى سخرية :
    - هو سجن خمسة نجوم إذن .
مطَّت شفتيها، قائلة :
    - كم أمقت هذا !
ثم أشارت إلى الرجال، فحل بعضهم أغلاله، فى حين صوًب إليه الآخرون أسلحتهم من بعيد فى تحفًز، وهى تقول :
    - ستصلك وجبتك الاولى خلال ساعة واحدة، بعد أن تغتسل وتستعد .
هزَّ كتفيه، وهو يدعك معصميه، قائلاً :
    - لا يروق لى أن أغتسل، فى مشهد سينمائى، يراقبه طاقم أمنكم .
غمغمت:
    - سرعان ما تعتاد هذا .
ثم أشارت إليه، مستطردة فى صرامة:
- والآن ستقف فى هذا الركن البعيد، حتى نغادر الحجرة.
اتجه نحو الركن فى هدوء، وهو يقول :
    - هناك سؤال واحد، لست أظن البارون يعترض على إجابته.
سألته فى حذر :
    - وما هو ؟!
أجاب، وهو يقف فى ذلك الركن :
    - ما اسمك ؟!
ابتسمت وهى تراقب انسحاب الرجال فى حذر، وأجابت :
    - (كاترين).
رفع حاجبيه وخفضهما، وهو يقول :
    - اسم جميل كصاحبته، ولكننى لست أدرى فى الواقع لماذا لا ترتدين زياً أحمر كالباقين، أظنه سيناسبك أكثر منهم .
تراجعت تغلق الباب، وهى تغمغم :
    - لست فى حل، من اجابة هذا .
سمع صوت رتاج قوى يغلق خلفها، ودارت عيناه فى المكان، يبحث عن تلك الكاميرات الخفية فيه ...
كانت هناك أكثر من عشر كاميرات، مزروعة فى أرجاء المكان، فى حرفية كبيرة، ولكن عينيه الخبيرتين حدًدت مواقعها، وأدرك أنها تغطى كل شبر من الحجرة تقريباً، فاتجه نحو احد النوافذ، وفحصها بنظره، ولكن نقطة اتصالها بالتيار الكهربى لم تبد له واضحة، فعاد إلى فراشه، واستلقى عليه فى استرخاء، وأغلق عينيه فى هدوء ...
" مدهش هذا المصرى !!..."...
نطقتها (كاترين) فى خفوت، وهى تراقب الشاشات، فى حجرة الأمن، قبل أن تتابع:
    - وجهه لا يحمل ذرة من الخوف أو القلق، وكانه يقضى إجازته فى منتجع فاخر بالفعل .
غمغم (ألنزو) فى شراسة:
    - لو ان الأمر بيدى، لعذبته حتى اسحق غروره هذا .
أجابته فى صرامة:
    - سيسحقك البارون، لو مسست شعرة منه.
قال فى حدة :
    - ولماذا ؟!... أليس المفترض أنه عدو ؟!
صاحت به فى خشونة:
    - ليس هذا من شأنك .
كظم غيظه فى صعوبة، ولكنه عجز عن منعه من الانتقال إلى صوته، وهو يقول :
    - ومتى يصل البارون ؟!
صمتت لحظة، قبل ان تجيب فى شراسة صارمة :
    - عندما يقرًر هو هذا .
فى نفس اللحظة التى نطقتها، كان البارون يواجه سائق السيارة فى غضب، قائلاً :
    - إذن فقد أفلتوا منك!.... كيف هذا أيها المعتوه ؟!... فتاة ضئيلة الحجم، ودب بدين، يفلتان من محترف مسلًح؟!... كيف ؟!
أجابه السائق فى توتر:
    - الفتاة ضئيلة، ولكنها قوية، وتتحرًك بسرعة مدهشة، ثم أنها باغتتنى  بالهجوم، دون أن أتوًقع هذا .
بدا شديد الغضب، وهو يقول :
    - أأنا محاط بالحمقى أم ماذا؟!... للمرة الثانية نفقد عنصر المفاجأة؛ بسبب غلطة سخيفة من أحدكم... ألم تعلم أيها الغبى أن هذين الإثنين كانا وثيقة التأمين، التى ستجبر (أدهم) على توقيع عقد البيع.
بدا الرجل شديد التوتر والخوف، وهو يقول :
    - سيًدى البارون ... إننى ...
قاطعه البارون بإشارة صارمة من يده، صائحاً :
    - اصمت .
اطبق الرجل شفتيه فى خوف، فى حين التفت البارون إلى (توبلكس)، الذى لم يستعد تماسكه بعد، وقال بلهجة آمرة:
    - وزًع صورهما، ونشرة بأوصافهما، على كل رجل لدينا، فى كل الولايات، وأخبر الجميع أننى سأمنح مليون دولار نقداً، لمن يأتى بهما على قيد الحياة ... أريدهما بأى ثمن ... هل تفهم يا هذا ؟!... بأى ثمن .
غمغم (توبلكس) مرتجفاً:
    - سأنفذ أوامرك فوراً يا سيًدى البارون .
رمقه البارون بنظرة وحشية، ثم قال :
    - مر الرجال بإعداد طائرتى الخاصة؛ فأنا شديد الشغف؛ لمقابلة السيد (أدهم)، بعد أن صار فى قبضتى، فالمفاجأة التى أعددتها له، ستفوق كل تصوًراته ... ألف مرة .
ولم يفهم (توبلكس) ما تعنيه تلك المفاجأة ...
او حتى طبيعتها ...
لم يفهم أبداً ...
*            *            *
من كل زاوية ممكنة، درس (أدهم) موقفه، وهو راقد على فراشه، مغلق العينين، يعلم أن رجال البارون يتابعون كل حركة يقوم بها فى تحفًز ...
فلو صح حديث (كاترين)، فلا توجد بالفعل وسيلة واحدة للفرار، من هذا الأسر ..
ولكن عقله لم يقبل أبداً، طوال حياته، كلمة (مستحيل) هذه ...
فالذين صنعوا هذا هم مجرًد بشر ...
والبشر لا يضعون نظاماً محكماً أبداً ...
هناك دوماُ ثغرة ما ...
ثغرة ربما لم ينتبهوا إليها ...
أو لم يضعوها فى حسبانهم ...
ومهمته هى أن يبحث عن تلك الثغرة ...
وعن كيفية الإفادة منها ...
ولكن أين هى ؟!...
وكيف يمكن استغلالها ؟!...
كيف ؟!...
" سنيور (أدهم) .... قف فى ذلك الركن .."...
آتاه صوت (كاترين) صارماً، عبر مكًَّبر صوتى، ففتح عينيه، وقال فى سخرية :
    - وماذا لو لم أفعل ؟!
آتاه صوتها يقول فى صرامة أكثر :
    - لن تتناول وجبتك .
هزًَّ كتفيه، وهو مازال مستلقياً على فراشه، وغمغم :
    - أظننى قد فقدت شهيتى .
لم يكد ينطقها، حتى سرى فى جسده تيار كهربى مفاجئ، جعله يقفز من الفراش مضطراً، وسمعها تقول :
    - سيحدث هذا، كلما رفضت تنفيذ الأوامر .
وقف إلى جوار الفراش لحظة فى صمت، يراقبه فى اهتمام، ثم لم يلبث أن غمغم:
    - فليكن .
تحًرك إلى ذلك الركن البعيد من الحجرة، وسمع بعدها صوت رتاج الباب يفتح، ثم اندفع حرًاسه العشرة، يصوبون إليه أسلحتهم فى تحفًز، ودخلت بعدهم (كاترين)، وهى تقول فى ظفر :
    - هذا أفضل .
تبعها رجل يدفع أمامه عربة حمراء اللون، تفوح من الأطباق فوقها رائحة شهية، ورص أطباق الطعام على مائدة بالقرب من الفراش، و(كاترين) تقول :
    - لن تتناول العشاء فى حجرتك الليلة .
غمغم فى سخرية:
    - أهذا عقاب آخر ؟!
أجابته فى ضيق :
    - كنت اتمنى هذا، ولكن البارون سيصل خلال ساعة من الآن، ولقد أمر بأن تتناول العشاء على مائدته .
قال فى حزم :
    - تقصدين مائدتى .
تجاهلت تعليقه، وهى تقول :
    - احرص على أن ترتدى حلة نظيفة، مع رباط عنق أنيق؛ فالبارون لا يتنازل عن الرسميات، فى مثل هذه الأمور.
 ابتسم فى سخرية، وهو يقول:
    - لا شك فى أن بارونكم هذا مصاب بازدواج عجيب فى الشخصية، فهو يتعامل مع بعض أسراه كالنبلاء، ومع باقى البشر كزعيم عصابة من الدرجة الثالثة.
مرة أخرى، تجاهلت تعليقه، وقالت فى صرامة :
    - العشاء يتم تقديمه فى التاسعة والنصف .
قالتها، وأشارت إلى الرجال، فانسحبوا بالتكنيك نفسه، فى حين اعتدل هو، وسألها فى صرامة:
    - ماذا يتناول الباقون فى الأسطبل ؟!
أجابته، وهى تستعد للانصراف:
    - ليس هذا من شانك .
أجابها فى صرامة أكثر :
-    لن يمكننى أن أتذوق لقمة واحدة من هذا، لو أنهم لا يتناولون الجيد من الطعام .
توقفت، واكتست ملامحها الجميلة بغضب صارم، وهى تقول:
    - لو أن هذا يؤرقك إلى هذا الحد، سآمر (ألنزو) بأن يحرص على ألا يحتاج أحد منهم إلى الطعام قط .
أدرك ما تعنيه كلماتها، فغمغم فى مقت:
    - هذا هو ازدواج الشخصية، الذى اتحدث عنه .
رمقته بنظرة عجيبة، قائلة:
    - تناول طعامك يا سنيور (أدهم) .
ثم أغلقت الباب خلفها، وسمع صوت الرتاج الثقيل يغلق ...
ولثوان، بقى (أدهم) واقفاً، يتطلًع إلى الباب المغلق، ثم نقل بصره إلى الطعام، الذى تتصاعد منه رائحة شهية للغاية ...
لم يكن قد تناول أى طعام، منذ ليلة أمس، وعلى الرغم من هذا، فقد تجاهل الطعام تماماً، وعاد يرقد على فراشه، ويغلق عينيه ...
وفى أعماقه، ودون أن تحمل ملامحه أى تغيير، ارتسمت ابتسامة كبيرة ...
لقد عثر على نقطة الضعف فى زنزانته المحكمة...
وعليه أن يحسن استغلالها ...
إلى أقصى حد .




الفصل التاسع : الوحش
رفع (قدرى) عينيه، عن العمل الدقيق الذى يقوم به، وتطلَّع إلى (منى)، وابتسم وهو يقول: 
- هل لى بالتعَّرف إليك أيتها الفاتنة ؟!
بدت (منى) شديدة الجدية، وهى تقول :
- لست أظن هيئى تختلف، عن الصورة التى أمامك .
خفض (قدرى) عينيه لحظة، إلى صورة (منى)، فى الهوية الأمريكية الزائفة، التى انتهى من صنعها، ثم عاد ببصره إليها، قائلاً :
- بل هو اختلاف تام ... أنت من لحم ودم .
كانت ترتدى ثوباً أزرق اللون، شديد الأناقة، وتضع على رأسها باروكة شقراء، ذات شعر متماوج، وعلى عينيها عدستين خضراويين، جعلاها تبدو كأمريكية من أصل لاتينى ...
وفى اهتمام، التقطت الهوية الأمريكية، وألقت نظرة عليها، قبل أن تغمغم :
- عبقرى كعادتك يا (قدرى) .
رفع أمامها هوية أخرى، تحمل صورته، بشارب ضخم، وهو يقول فى حماس :
- لقد صنعت أخرى لى .
انعقد حاجباها، وهى تقول فى صرامة:
- كَّلا .
تراجع فى مقعده الكبير، وهو يقول مستنكراً :
- ماذا تعنين بكلا هذه ؟!
أجابته فى حزم :
- إنهم يبحثون عن فتاة بصحبة رجل ضخم، ومهما بلغت دقة تنكرنا، فسيثير وجودنا معاً شكوكهم .
قال فى ضيق :
- ولكننى لم اسافر من (القاهرة) إلى هنا؛ لأجلس ساكناً فى انتظارك .
اعتدلت، قائلة :
- ومن قال : إنك ستفعل ؟!
نظر إليها فى تساؤل، فمالت نحوه، مردفة:
- لدى مهمة خاصة لك .
لم تكد تتم عبارتها، حتى حدثت المفاجأة ...
تحطَّم باب المنزل فى قوة، واندفع عبره خمسة رجال، يحملون أسلحة قوية ...
وانقضوا على (منى) و(قدرى) ...
مباشرة ...
وبكل ما تعلمته (منى) فى حياتها، وثبت تلتقط مسدس السائق، ثم دارت حول نفسها، واطلقت النار نحو الرجال الخمسة، واصابت أثنين منهم فى صدريهما، قبل أن يطلق ثالث رصاصاته، فيطيح بمسدسها فى قوة ...
ولدهشتها، رأت الرجلين اللذين أصابتهما ينهضان، والثلاثة الىخرون ينقضون عليها، فى حين التقط (قدرى) تمثالاً صغيراً، وقذف به أحدهم ...
وقاتلت (منى)، بكل ما تملكه من قوة وإرادة ...
وقاتلت ...
وقاتلت ...
ولكن مواجهة خمسة رجال أقوياء، لم تكن بالأمر الممكن، لفتاة فى حجمها ....
لذا فقد وقعت فى قبضتهم أخيراص ...
أما (قدرى)، فقد رفع ذراعيه مستسلماً، مع فوهة المدفع الآلى، التى التصقت بجانب عنقه ... وفى هدوء واثق، دخل (توبلكس) المنزل، وهو يقول بابتسامة ظافرة :
- جميل أن نلتقى مرة أخرى يا آنستى ... مرحبا يا سَّيد (قدرى) .
غمغم (قدرى) :
- يؤسفى أن أخبرك، انك مازلت ضيفاً غير مرغوب فيه يا رجل .
ابتسم (توبلكس)، والتمعت عيناه، وهو يقول :
- ويؤسفنى أنا أن أخبرك، انك ستضطر لاحتمال وجودى طويلاً ، يا سيَّد (قدرى) .
غمغمت (منى) فى مقت، وقد قيَّد اثنان من الرجال حركتها :
- من الواضح أن عيونكم منتشرة، فى كل مكان أيها المحامى .
أومأ برأسه، قائلاً :
- هذا صحيح يا آنستى ... والمكافأة التى رصدها البارون، كانت كافية لفتح كل العيون .
ثم أشار إلى (قدرى)، مضيفاً :
- هذا بالإضافة إلى أنه يصعب نسيان السيد (قدرى)، عندما يسير إلى جوار حسناء مثلك .
قالت فى حدة :
- ومن الواضح أن البارون قد طلب إحضارنا، على قيد الحياة، وإلا لما أفلتنا من رصاصات رجالك .
أومأ برأسه ثانية :
- هذا صحيح مرة أخرى .... لقد طلب إحضاركما حيين .
ثم انعقد حاجباه فجأة، وهو يضيف :
- ولكن ليس بوعييكما .
مع قوله، رأت أحد الرجال يغرس محقناً فى عنق (قدرى)، وشعرت بوخذة مؤلمة فى عنقها ....
ثم تهاوى كل شئ ...
فجأة ...
* * *
" لقد كان جاداً فى قوله .."..
نطق (ألنزو) عبارته فى قسوة، ومقت، قبل أن يلتفت إلى (كاترين)، مستطرداً :
- إنه لم يقرب الطعام قط .
راقبت (كاترين) الشاشات، وهى تغمغم :
- من الواضح أنه عنيد، وقوى الإرادة إلى حد مدهش .
صمتت لحظة؛ لتخفى لمحة إعجاب فى صوتها، قبل أن تتابع :
- ولكن ها هو ذا يستعد؛ لتناول العشاء مع البارون .
غمغم (ألنزو) فى مقت :
- لا يمكننى استيعاب هذا .
قالت فى صرامة:
- ليس مهماً أن تستوعبه ... المهم أن تنفذه .
جمعت طاقم الأمن، وقالت عبر مكَّبر الصوت فى حجرة (أدهم):
- إلى الركن يا سنيور (أدهم).
اتجه (أدهم) فى هدوء إلى ذلك الركن البعيد، ولم تمض دقيقة، حتى دخلت (كاترين) المكان، مع الرجال العشرة، وأشارت إلى اثنين آخرين، فتقدما من (أدهم) فى حذر، وهما يحملان سلسلة قصيرة، تنتهى بأغلال معدنية، أحاطا بها كاحلى (أدهم)، الذى قال فى سخرية :
- ألا تخشون أن أعضَّهم ؟!
هزًَّت رأسها نفياً، وقالت :
- إنك لن تضيع فرصة اللقاء بالبارون .
أجابها، والرجلان يدفعانه أمامهما، والمدافع العشرة مصوَّبة إليه من بعيد :
- لقد سبق وأن التقينا فى مكتبه .
قالت فى صرامة:
- هذا اللقاء سيختلف .
لم يكن هبوط درجات السلم سهلاً، بتلك الأغلال فى كاحليه، ولكنه وصل بها إلى صالة المزرعة، حيث امتدت مائدة الطعام، وفوقها شمعدان كبير مضاء، والبارون يجلس عند احد طرفيها، ويستقبله بابتسامة ظافرة، قائلاً :
- مرحبا يا سَّيد (أدهم) ... اتعشم أن يروق لك الطعام على مائدتى .
قادت (كاترين) (أدهم) إلى الطرف الآخر للمائدة، وأوصل الرجلان سلسلة قوية فى أحد أرجلها إلى سلسلة كاحليه، وهو يقول :
- إنها مائدتى حتى الىن أيها البارون ... لو أنك نسيت هذا .
ثم ابتسم فى سخرية، مضيفاً :
- ومن عادتى ألا ادعو أمثالك إليها .
تجاوز البارون العبارة، وهو يقول :
- قبل أن ينتهى العشاء، ستكون أمور عديدة قد تغيَّرت أيها المصرى .
بدأ الخدم فى رص الطعام، والبارون يتابع :
- الواقع أن هذا المكان يروق لى كثيراً، وعلى الرغم من هذا، فسأجرى عليه بعض التعديلات .
أشار البارون، قائلاً :
- (هتلر) صار ماضياً يا سيَّد (أدهم)، ولكن الفكرة لا بأس بها، من الناحية الجمالية .
مال (أدهم) نحوه، قائلاً فى سخرية :
- أو من الناحية الديكتاتورية .
ضم البارون شفتيه فى غيظ ، وصمت لحظات ليهضم انفعاله، ثم قال :
- بم تحب أن تبدأ يا سيَّد (أدهم) ؟!... بالسلاطة أم بالحساء ؟!
هزًَّ (أدهم) كتفيه، قائلاً :
- وماذا لو بدأنا بالحديث، عن سبب هذه الدعوة السخية ؟!
صمت البارون لحظات، ثم بدأ فى تناول الحساء، وهو يقول :
- الأوراق كلها جاهزة للتوقيع يا سيَّد (أدهم) .
قال (أدهم) فى هدوء:
- ولماذا لم توقعَّها ؟!
أجابه، وهو يدرك عبثية السؤال :
- لقد وضعت عليها توقيعى بالفعل، وبقى توقيعك .
ابتسم (أدهم)، وهو يقول :
- يبدو أنك ستنتظره طويلاً .
انعقد حاجبا البارون فى غضب، ثم اعتدل يرمق (أدهم) بنظرة وحشية، أجابها هذا الاخير فى سخرية :
- هل من المفترض أن أرتجف خوفاً ؟!
ضغط البارون زراً صغيراً إلى جواره، وهو يقول فى شراسة :
- بل لدى وسيلة أفضل أيها المصرى .
مع أخر عبارته، ارتفع دوى رصاصة من بعيد، ممتزجة بصرخات مكتومة، فانعقد حاجبا (أدهم) بشدة، فى حين قال البارون، وقد بدا أكثر ما يكون وحشية :
- معذرة أيها المصرى، ولكن مع كل جواب يستفز مشاعرى، سأضغط هذا الزر، الذى يعطى (ألنزو) إشارة؛ لإعدام أحد رجالك فى الأسطبل .
ازداد انعقاد حاجبى (أدهم) فى غضب، فى حين استعاد البارون هدوءه، على نحو عجيب، وعاد يتناول حساءه، وهو يقول :
- لذا، فمن الأفضل أن يدور الحديث بيننا، كما يدور بين رجال الاعمال المحترمين .
شعر (أدهم) أنه امام وحش كاسر، لا يردعه أى شئ، فصمت بعض الوقت؛ للسيطرة على غضبه وانفعاله، ثم قال فى هدوء:
- ولكن ماذا لو أننى مازلت أرفض البيع ؟!...كم من الرجال سيقتل ذلك السفاح (ألنزو)، بسبب هذا ؟!
هزَّ البارون كتفيه فى هدوء، وقال، دون أن يرفع عينيه عن الحساء :
- ما يتطلبه الأمر ...
صمت (أدهم) لحظات، وهو يتطلًَّع إلى ذلك الوحش المفترس، الذى يجلس هادئاً أمامه، غير مبال بما أزهق من أرواح بريئة، ثم مال نحوه، قائلاً :
- الواقع أننى قد أصدرت اوامرى، منذ التقيت بمحاميك فى )القاهرة)، بألا يتم اعتماد توقيعى، على أية عقود شراء أو بيع، إلا بحضورى شخصياً، وإلا ...
قاطعه البارون، فى هدوء عجيب :
- أعلم هذا .
اعتدل (ادهم) على مقعده، وهو يقول :
- وهل تتوقع منى أن أذهب شخصياً؛ لاعتماد توقيعى ؟!
ابتسم البارون ابتسامة غامضة، وهو يقول :
- هل ترانى بمثل هذا الغباء ؟!...
صمت (أدهم) مرة اخرى؛ محاولاً ان يستشف ما يدور فى ذهن البارون، قبل أن يسأله فى بطء :
- وكيف تظن أنك ستتجاوز هذا الإجراء ؟!
التقط البارون منشفة صغيرة، بطريقة أنيقة، ومسح شفتيه فى رفق، وهو يجيب، بنفس الابتسامة الغامضة :
- دع لى هذا .
كرَّر (أدهم) فى حزم :
- مازلت أتساءل : كيف ؟!
تجاهل البارون السؤال هذه المرة، وهو يقول :
- إنك لم تتناول شئاً من طعامك، يا سيَّد (ادهم) .
أجابه (أدهم) فى شئ من الصرامة :
- لقد أخبرت حسناءك الخمرية، أننى لن اتذوق الطعام، قبل أن أطمئن إلى ان رجال مزرعتى يتناولون طعاماً جيداً .
بدت ابتسامة البارون أشبه بابتسامة ذئب، وهو يقول :
- أتعنى من تبقَّى منهم ؟!
صمت (أدهم) لحظة، ثم مال إلى الأمام، وهو يسأله :
- هل تروق لك إراقة الدماء، فقط لأنها حمراء.
هزًَّ البارون كتفيه فى لامبالاة، وقال :
- ربما .
ثم استطرد فى صرامة :
- ولكننا سنواصل إراقتها، حتى يلين رأسك الصلب .
واصل (ادهم) صمته لحظات أخرى، ثم قال :
- وماذا لو عقدنا صفقة ؟!
سأله البارون بلا اهتمام :
- من أى نوع ؟!
أجابه فى حزم :
- أن تطلق سراح نصف الرجال، ثم اوقع تلك الاوراق .
تطلَّع إليه البارون لحظة فى صمت، ثم انفجر فجأة ضاحكاً، على نحو مستفز، وجفَّف شفتيه مرة أخرى، بمنشفته الحريرية الحمراء، قبل أن يقول :
- يالك من تاجرفاشل يا سيَّد (أدهم) ... أوراق اللعبة كلها فى يدى الآن، فلماذا اعطى بعضها لك ؟!
أجابه (أدهم) فى صرامة :
- حتى لا تخسرها كلها، خلال الساعات التالية .
التقى حاجبا البارون، مع هذه العبارة، وتطلَّع إلى (أدهم) طويلاً فى صمت، قبل أن يقول فى حدة :
- انتهى العشاء يا سيَّد (ادهم) .
ثم نهض من مقعده بنفس الحدة، صارخاً :
- (كاترين) .
اختفى داخل حجرة مكتب (أدهم) الخاصة، فى نفس اللحظة، التى ظهرت فيها (كاترين)، وهى تقول بابتسامة متشفية :
- لقد أغضبت البارون .
أجابها (أدهم) فى هدوء :
- إنه غاضب دوماً .
أشارت إلى رجالها، فالتفوا حول (أدهم)، يصوبون إليه أسلحتهم فى تحفز، فى حين حل رجلان الأغلال، المرتبطة بالمائدة، وقاده الجميع، فى موكب متوتر، حتى حجرته، وقالت )كاترين)، قبل أن تغلق بابها خلفها :
- ربما تتعلَّم الليلة، ماذا يحدث لمن يغضب البارون .
بدت ابتسامته غامضة، وهو يقول :
- ربما .
رمقته بنظرة شك حذرة، قبل أن تغلق الباب فى إحكام، وتأكَّت مرتين من تشغيل جهاز التفجير المتصل به، قبل أن تتجه إلى حجرة المراقبة، وتقول لرجال البارون فيها :
- أريد تشديد المراقبة عليه الليلة؛ فهو يبدو غامضاً، أكثر مما ينبغى .
رأته على الشاشات، يستلقى على الفراش بثيابه، ثم يجذب الغطاء فوقه، ويغلق عينيه، وهو ينام على جانبه، فغمغمت فى قلق:
- هل سينام هكذا ؟!
أجابها أحد الرجال ساخراً:
- ربما يخجل من خلع ثيابه، امام كاميرات المراقبة .
تساءلت، فى شك أكثر :
- وماذا عن الحذاء ؟!
فى نفس اللحظة، كان البارون يجرى اتصالاً، من مكتب (أدهم)، مع (توبلكس)، الذى بدا شديد الحماس، وهو يقول عبر الهاتف :
- إنهما فى قبضتنا الآن يا سيَّدى البارون ... العثور عليهما لم يكن سهلاً، ولكننا فعلناها .
قال البارون فى صرامة:
- انقلهما إلى المطار فوراً... أريدهما هنا، قبل أن تشرق شمس الغد .
أجابه (توبلكس) :
- بالتأكيد يا سيَّدى البارون... بالتأكيد .
أنهى البارون المحادثة، وتراجع فى مقعد (أدهم) الكبير، وهو يقول لنفسه :
- سيخضع ذلك المصرى، حتى ولو قتلت كل من يعرف، فى هذه الحياة.
كان ينطقها فى مقت، يوحى بأن هدفه الرئيسى ليس شراء المزرعة :
بل إخضاع (أدهم) ...
إخضاع الرجل، الذى أخضع أقوى أجهزة المخابرات فى العالم ...
وأكثر المنظمات الإجرامية بأساً وعنفاً ...
فطوال حياته، لم يقاومه أحد إلى هذا الحد ...
الكل يخضع أمامه ...
إما بالمال ...
أو بفوهة مسدس، ملتصقة برأسه ...
الكل بلا استثناء ...
سوى (ادهم صبرى) ...
التفت مع أفكاره إلى تلك الشاشات الصغيرة أمامه، والمرتبطة بنفس كميرات المراقبة، فى جناح (أدهم)، وضغط زر تشغيلها ، و ...
وفجأة، سمع تلك الفرقعة المكتومة ...
وانقطع التيار الكهربى فى المكان كله دفعة واحدة ...
وانتفض جسد البارون فى قوة ...
فإلى ذهنه، قفزت فكرة واحدة؛ لتفسير ماحدث ...
لقد بدأ (أدهم) حربه، على نحو ما ....

وبمفاجأة .

*            *            *


الفصل العاشر: الحرب
" ذلك الفراش صعقه من قبل ..."...
تلك الفكرة كانت تملأ رأس (أدهم)، عندما استلقى على فراشه، بعد دعوة العشاء الفاشلة مع البارون ...
وراح عقله يعمل فى سرعة ...
مادام الفراش قد صعقه، فقد أوصله بدائرة كهربية؛ لأداء هذه المهمة ...
جذب الغطاء فوق جسده، متظاهراً بالنوم، وهو يدرك أن اكثر من دستة من كاميرات المراقبة، تتابع كل ما يفعله، ثم مال جانباً، والغطاء يخفى حركته، وبدأت يده الخبيرة تبحث عن مصدر ذلك التيار الكهربى ...
استغرق منه الأمر لحظات فحسب، قبل أن يعثر على طرفى السلك الرئيسى، المتصل بشبكة معدنية أسفل الفراش ...
وتحت غطاء الفراش، راح يقوم بعمل شديد الدقة، معتمداً على حساسية وخبرة يديه فحسب ...ثم جاءت لحظة الحسم، عندما أوصل طرفى السلك بعضهما ببعض ...
ودوت فرقعة مكتومة ...
ثم انقطع التيار فى المكان كله ...
ومع انقطاع التيار، دفع (أدهم) الغطاء بعيداً، ووثب من الفراش، مندفعاً نحو باب الحجرة، فى نفس اللحظة، التى حملت فيها (كاترين) مدفعها، صائحة فى غضب :
    - لقد فعلها ...
اندفعت، وخلفها طاقم حراستها، نحو حجرة (أدهم)، وأحد الرجال يهتف من خلفها :
    - شبكة الكهرباء هنا تقليدية، ويمكننا إعادة التيار، خلال دقيقة واحدة .
صاحت به فى حدة:
    - مع رجل كهذا، تكفيه نصف دقيقة للعمل .
والواقع أنها كانت مخطئة فى قولها هذا ...
فبعد عشر ثوان فحسب، من قفزته من فراشه، كان (أدهم) يدفع أمامه عربة الطعام بكل قوته؛ ليضرب بها الباب فى قوة ...
ثم وثب فوقها، واستخدم كل ما لديه من قوة، ليثب نحو الباب، مستخدماً قوة اندفاعه، وارتطم به فى عنف ...
ومع قوته، أصدر رتاج الباب صوتاً حاداً، فتراجع (أدهم)، ووثب مرة أخرى ...
كان يتحًَّرك فى حجرته، وداخل مزرعته، التى يحفظ كل شبر فيها، ويدرك أن بابها مصنوع من خشب قديم، بعمر المزرعة نفسها، وأنه مهما كان رتاجة قوياً، فإن إطاره لن يحتمل طويلاً ...
وكان على حق ...
فمع الضربة الثالثة، انهار إطار الباب، دون أن يعمل جهاز التفجير، المتصل بشبكة الكهرباء الوحيدة فى المكان ...
وعندما وصلت (كاترين) ورجالها، وعلى ضوء مصابيحهم اليدوية، فى نهاية الممر، والتى لم يتم تزويدها بالقضبان الفولاذية؛ لوجودها خارج حجرته، التى تصوًَّروا أنه لن يستطيع مغادرتها، أو الفرار منها أبداً ...
وصرخت (كاترين) :
    - أوقفوه .
قالتها، وهى تطلق رصاصات مدفعها، مع رصاصات مدافعهم، إلا أن (أدهم) كان الأسبق، وهو يثب نحو النافذة الزجاجية، ويحطمها، ويخرج منها إلى شجرة كبيرة، تعلًَّق بأغصانها لحظة، قبل أن يثب منها إلى الأرض، فى نفس اللحظة التى عاد فيها التيار الكهربى إلى المكان، الذى انطلقت فيه صفارة إنذار قوية، ترسل إلى كل رجال البارون إشارة خطر ...
وعندما واصلت (كاترين) مع رجالها اندفاعهم، حتى بلغوا النافذة، لم يكن هناك أثر لرجل المستحيل فى الساحة الخلفية ...
أى أثر ...
وصرخت (كاترين) فى غضب شديد :
-    إنه لن يذهب بعيداً....ابحثوا عنه ...إنه هناك فى مكان ما ...
انطلق رجالها ينفذون اوامرها، فى نفس اللحظة التى ارتفع فيها رنين جهاز اتصالها المغلق الخاص، فالتقطته فى سرعة، وسمعت البارون يهتف عبره فى هياج :
    - هل أوقفتموه ؟!
أجابته فى توتر شديد :
    - لقد قفز عبر نافذة الممر ... ولكن الرجال انطلقوا خلفه .
صمت لحظة، ثم قال فى حدة :
    - أنا أعلم أين ذهب .
غمغمت فى عصبية :
    - إنه يختبئ فى مكان ما، من الساحة الخلفية .
صاح بها :
    - أيتها الحمقاء الغبية ... من الواضح أنك مازلت تجهلين من تقاتلين...أمثال هذا المصرى لا يختبئون ... إنهم يقاتلون .... وملفه يشير إلى نقطة ضعفه الرئيسية، وهى التى ستقودنا إليه .
سألته فى تردًَّد متوتر:
    - أين ؟!
وعندما أخبرها، انعقد حاجباها فى شدة ...
فقد كان استنتاجه منطقياً ...
تماماً....
*            *            *
استعاد (قدرى) وعيه دفعة واحدة، داخل صندوق تلك السيارة، التى تنطلق به مع (منى)، عبر صحراء (المكسيك)، فى طريقها إلى مزرعة (صاندو) ...
كان من الواضح، أن كمية المخًَّدر، التى حقنوه بها، لا تتناسب مع جسمه الضخم، مما ساعده على استعادة وعيه، فى سرعة لم يتوقعها أحد ...
ولهذا لم يكن فى الصندوق سواه و(منى)، وكل منهما مقيًَّد بأغلال فولاذية، إلى مقعدين معدنيين ثقيلين، مثبتين على جانبى الصندوق ...
ولم تكن (منى) قد استعادت وعيها بعد ...
والعجيب أنه، وعلى الرغم من أن (قدرى) ليس مقاتلاً بطبعه، إلا أنه ظل محتفظاً بهدوئه، وهو يغمغم :
    - والآن ماذا تفعل يا (قدرى) ... أنت الآن وحدك، ومسئول عن سلامة (منى)، و (أدهم) لن يغفر أبداً، لو مسًَّها أدنى سوء.
دار ببصره فيما حوله، على الضوء شديد الخفوت، ولمح ذلك الدبوس الذهبى، فى ياقة زى (منى)، والذى يحمل الحرف الأوًَّل من اسم (أدهم)، فالتقط نفساً عميقاً، وعاد يغمغم لنفسه:
    - هيا يا (قدرى) ... إنها فرصتك لتثبت مهارتك، فى التعامل مع هذه الأمور .
بذل جهداً خرافياً، ليميل برأسه، ثم يحنيه، وهو يلهث فى صعوبة، حتى يلتقط ذلك الدبوس الذهبى بأسنانه، وعندما اعتدل، كان الدبوس بين أسنانه بالفعل، فتوقف لحظة، حتى يسترد انفاسه، ثم دفع رأسه جانباً فى قوة، مغلقاً الدبوس بين أسنانه، وفتح أصابعه الذهبية؛ ليلتقطه فى الهواء، واتسعت ابتسامته، على الرغم من الموقف، وهو يغمغم لنفسه لاهثاً:
    - عظيم ... خطوتك لأولى تمت بنجاح يا (قدرى)، وعليك أن تثبت الآن، أنك تستحق لقب (الأصابع الذهبية)، الذى أطلقه عليك (أدهم) .
وفى حرفية مدهشة، ومهارة فذة، راحت أصابعه تعمل ...
وتعمل ...
وتعمل ...
*            *            *
سرى توتر وحشى عنيف، فى كيان (ألنزو) كله، عندما انقطع التيار الكهربى فى اسطبل الخيل فى المزرعة، ومع صهيل الخيول، صرخ فى عصبية :
    - لو تحرًَّك أحدكم، سأطلق النار على الجميع .
قرن قوله بسيل من طلقات مدفعه، أطلقه فى هواء الاسطبل، فتعالى صراخ الجميع، ممتزجاً بصهيل عصبى من الخيول، وهتف به (بدرو) مدير المزرعة، فى توتر شديد :
    - لن يتحًَّرك أحد ... أرجوك .
عاد التيار الكهربى دفعة واحدة، عقب عبارة (بدرو)، وانطلقت صفارات الإنذار فى كل مكان، مما زاد من توتر الجميع، ومن صهيل الخيل، فقال (ألنزو) لرجاله فى عصبية متوترة :
    - راقبوا الجميع جيداً، وأطلقوا النار بلا تمييز، عند أية محاولة لاقتحام المكان .
قالها، وهو يندفع خارجاً، فابتسم أحد شيطانيه، وهو يدير بصره فى رجال المزرعة المذعورين، مغمغماً فى نشوة وحشية :
    - كم سيروق لى هذا .
بدا أحد زملائه شغوفاً بفتاة حسناء سمراء اللون، من العاملات فى المزرعة، وغمغم، وهو يتجه إليها :
    - هناك امور أخرى، تروق لى أكثر .
جذب إليه الفتاة فى خشونة، فصرخت محاولة الإفلات منه، وضحك رفاقه فى جذل وحشى، فى حين حاول (بدرو) حماية الفتاة، وهو يقول فى توتر :
    - أرجوك يا سنيور .... ليس النساء .
هوى الرجل بمدفعه على وجه (بدرو)، فألقاه بعيداً فى عنف، وهو يقول فى شراسة :
    - كلمة إضافية، وسأنسف رأسك كجواد جريح .
 صهلت الخيول، وكأنها تعترض على الموقف، وانكمش الباقون فى هلع مشفق، فى حين واصلت الفتاة المسكينة صراخها، وهى تقاوم الرجل فى عنف، وحاول (بدرو) النهوض، وهو يقول فى ألم:
-    ارجوك يا سنيور .
التفت إليه الرجل فى وحشية، وصوًَّب إليه فوهة مدفعه الآلى، وهو يصرخ :
    - أنت اردت هذا إيها الغبى .
لم يدر أحدهم كيف حدث ما حدث بعدها ...
فقبل حتى ان ينهى الرجل عبارته الوحشية، هبط (أدهم) من سقف الاسطبل، دون أن يدرى أحدهم من أين جاء ...
وبركلة كالقنبلة، أصاب وجه الرجل الممسك بالفتاة، وأطاح به نحو رفاقه، الذين رفعوا فوهات مدافعهم، وأحدهم يصرخ :
    - أطلقوا النار ...
واتسعت عيون العاملين فى المزرعة ذهولاً ...
لقد كانوا سبعة رجال أشداء، يحملون أسلحة فتًَّاكة ...
وكان (أدهم) وحده ...
وبلا سلاح ...
ولكن الموقف كان مذهلاً بحق ...
لقد ركل (أدهم) ذلك الممسك بالفتاة، ثم وثب من فوقه، وانقض على الرجال الستة الآخرين ...
وبدا المشهد أشبه بفيلم سينمائى، يدار بسرعة عرض أكبر ...
ضربات، ولكمات، وركلات ... وصراخ وأنين ...
ثم صمت ...
صمت استغرق لحظة واحدة، انحنى (أدهم) بعدها؛ ليلتقط أحد المدافع الآلية الثقيلة، فهتف به أحد خصومه، ولم يفقد وعيه بعد، وهو يختطف مدفعه :
    - أخطأت يا هذا ... مدافعنا لا قيمة لها، إن لم تكن فى أيدينا .
قذفه (أدهم) بالمدفع الثقيل، بكل قوته، وهو يقول :
    - هل ترى هذا ؟!...
ارتطم المدفع برأس الرجل، وألقاه أرضاً فاقد الوعى، قبل أن يعتدل (أدهم)، ويلتفت إلى رجاله، قائلاً فى غضب :
    - ما كان عليهم أن يمسوا النساء .
ثم أضاف فى اهتمام :
    - أأنتم بخير ؟!
قالها، وهو يمد يده للفتاة السمراء، التى التقطت يده فى انبهار، وغمغمت فى امتنان :
    - مادمت هنا يا سنيور .
أما (بدرو)، فقد اندفع نحوه، يقول فى انفعال :
-    سنيور (صاندو) ... لقد هاجمونا بغتة، وقتلوا خمسة منا، و ...
استوقفه (أدهم)، وهو يربًَّت على ظهره، قائلاً فى هدوء آسف :
    - سيدفعون الثمن يا (بدرو) ... أعدك أنهم سيدفعون ثمن كل قطرة دم أراقوها .
انبرى أحد العاملين، يقول :
    - الأفضل أن تختفى يا سنيور، لو أنك تستطيع هذا؛ فهم سيعودون إلى هنا حتماً، وذلك الوحش المفترس لا يتردًَّد فى إطلاق النار .
أجابه (أدهم) فى حزم :
    - لا بأس يا رجل... أظنهم قد عادوا بالفعل، ونحن نتحدًَّث هنا .
لم يكد ينهى عبارته، حتى ارتفع صوت البارون من الخارج، عبر مكًَّبر صوتى قوى، وهو يقول :
- سيًَّد (أدهم) .... اسطبلاتك كلها محاصرة برجالى، ولا يوجد منفذ واحد للفرار.... ليس حتى لناموسة واحدة ... سأمنحك دقيقة فحسب؛ لتخرج مع الجميع، رافعين أيديكم فى استسلام، وفور انتهاء الثانية الستين، سنطلق قاذفات اللهب على المكان، ونحرقكم جميعاً .
قالها بالأسبانية، فارتسم الرعب على وجوه الجميع، وقالت إحدى النساء، كبيرات السن :
    - اهرب يا سنيور، وسنستسلم نحن .
عقد (أدهم) حاجبيه فى صرامة، وهو يقول :
    - لن يستسلم أحداً .
ثم التفت إلى (بدرو)، مكملاً :
    - لدى خطة ...
وارتفع صهيل الخيول مرة أخرى ...
*            *            *
" هل سمعت ؟!..."...
قالها قائد السيارة، التى تقل (منى) و(قدرى) فى توتر، عندما تنامى إلى مسامعه صوت صفارات الإنذار، التى انطلقت من المزرعة البعيدة، فأرهف زميله سمعه، وهو يغمغم :
    - هذا يبدو لى أشبه بصفارات إنذار .
أجابه، وهو يزيد من سرعة السيارة :
    - إنها كذلك ... هناك شئ ما، يحدث فى المزرعة .
جذب زميله مدفعه، وهو يقول فى توتر :
    - أهو هجوم ما ؟!
فجأة، أتاهما صوت من خلفهما، عبر النافذة الصغيرة، التى تفصلهما عن الصندوق الخلفى، يقول :
    - هل تقصدان مزرعة (صاندو) ؟!
ضغط السائق فرامل السيارة فى قوة، فى حين استدار بمدفعه، فى حركة عصبية حادة، نحو (قدرى)، الذى تراجع بحركة سريعة، لتنقض قبضة (منى) من النافذة، على فك زميل السائق، بلكمة زلزلت كيانه، وارتجًَّ لها رأسه، فصرخ فى شراسة، والسائق يستل مدفعه بدوره :
    - أيها الــ ....
قبل أن يتم عبارته برزت يد (قدرى)، عبر النافذة، وغرست ذلك الدبوس الذهبى فى عنقه، فى نفس اللحظة، التى أدارت فيها (منى) يدها، وفردت وسطاها وسبًَّابتها؛ لتضرب بهما عينى السائق فى قوة ...
وصرخ السائق، مع ذلك الألم الرهيب، الذى أصاب عينيه، فى حين ابتعد زميله، مطلقاً سباباً ساخطاً، وهو يحاول انتزاع ذلك الدبوس من عنقه ...
وهنا بدأت أهمية جسد (منى) الضئيل ...
ففى رشاقة مدهشة، انزلق جسدها، عبر النافذة الصغيرة، وقبضت على عنق السائق؛ لتدفع جسدها كله إلى كابينة القيادة، ثم تركل زميله بكل قوتها فى وجهه، بقدميها معاً ...
وكانت الركلة شديدة القوة، مما دفع الرجل خارج السيارة، ليسقط على رمال الصحراء فى عنف، فى نفس اللحظة التى تحًََّرك فيها جسدها المرن، لتسحب المدفع الثقيل من يد السائق، الذى منعته آلام عينيه من مقاومتها، ثم تهوى به على رأسه فى قوة ...
وفى حماس، هتف (قدرى) :
    - لقد فعلناها .
أتاهما صوت خشن غاضب، يقول :
    - ليس بعد .
وعبر باب السيارة المفتوح، رأت زميل السائق خارج السيارة المتوقفة، يصوًَّب إليها مدفعه، والغضب يملأ كل خلجة من خلجاته ...
وبحركة سريعة، ادارت (منى) مدفع السائق ...
وضغطت الزناد ...
ولكن شيئاً لم يحدث ...
زناد المدفع الأليكترونية لم يستجب لضغطة سبًَّابتها ...
وابتسم الرجل فى وحشية ...
وأطلق النار ...
*            *            *
على الرغم من الحصار التام لاسطبلات الخيل، لم يشعر البارون لحظة بالارتياح، وهو يجلس داخل سيارة مصفحة، يحيط به رجاله، واقتربت منه (كاترين)، وهى تقول، فى صوت لا يقل عنه توتراً :
    - بقيت عشر ثوان فحسب .
حمل صوته إليها عصبيته، وهو يقول :
    - هل تصوًَّرت أننا سننتظر، حتى نهاية المهلة ؟!
ثم انعقد حاجباه فى شراسة، وهو يضيف :
    - أشعلوا النيران .
التمعت عيناها، على نحو عجيب، وكأنه قد أمرها بأمر مبهج، والتفتت إلى رجالها، قائلة فى لهجة آمرة :
    - الآن .
كان (ألنزو) أكثرهم حماساً، وأسرعهم استجابة، وهو يدير مدفعه نحو الاسطبلات، هاتفاً :
    - مرحى .
ولكن فجأة، وقبل أن يضغط زناد مدفعه، حدثت المفاجأة ...
باب الاسطبلات انفجر فجأة، على نحو غير متوًَّقع، وطارت شظاياه فى وجوه الجميع، مع ارتفاع صهيل الخيول القوى ...
وفى اللحظة نفسها، اندفعت الخيول، عبر الباب المحطًَّم ...
اندفعت تنقض على الجميع، وعلى متنها رجال المزرعة، يقودهم (أدهم)، فوق جواد أسود قوى، وهو يحمل أحد المدافع القوية، وينهال على رأس كل من يقف أمامه، فى حين راحت باقى الخيول تطأ كل من يعترض طريقها، فى فوضى جعلت (كاترين) تعدو بمدفعها؛ لتحتمى خلف سيارة البارون المصفحة، وهى تهتف :
    - ذلك الشيطان ..
وعلى الرغم من انه يجلس داخل سيارته المصفًَّحة، رفع البارون ذراعيه، ليحمى وجهه، وانطلقت منه بلا وعى صرخة رعب، عندما شاهد (أدهم) يندفع نحوه بجواده القوى، ولكن (أدهم) لكز باطن جواده، وهو يجذب معرفته فى قوة، فوثب الجواد العربى الأصيل، عبر سيارة البارون، وشاهدته (كاترين) يمر فوقها، فصرخت بدورها، وهى تخفض رأسها ...
وعندما اعتدلت تفتح عينيها، كانت تتصوًَّر أن يكون (أدهم) منطلقاً بجواده؛ للابتعاد عن المكان بقدر الإمكان، إلا أنها فوجئت بهذا الأخير يستدير بجواده، ثم يعود للانقضاض، فرفعت مدفعها، مطلقة صرخة قتالية، و(أدهم) يهتف :
    - ليس من شيمة العرب ضرب النساء .
وقبل أن تضغط زناد مدفعها، أطاح هو به، بضربة مباشرة، من المدفع الذى يحمله، وهو يكمل فى صرامة :
    - عندما يلعبن دور النساء .
سقط مدفعها بعيداً، فعادت تحنى رأسها، وتحميه بذراعيه، و(أدهم) يثب بجواده مرة أخرى، عبر سيارة البارون، الذى راح يصرخ :
    - أوقفوه .... أوقفوه بأى ثمن .
كان (ألنزو) يحاول التقاط مدفعه، الذى فقده مع هجوم الخيل، عندما صرخ (بدرو)، من فوق جواد آخر :
    - ها هو ذا يا سنيور (صاندو) .
قالها، مشيراً إلى (ألنزو)، فأدار (ادهم) جواده، واندفع بأقصى سرعته، نحو هذا الأخير، صائحاً :
    - الخطة يا (بدرو) .
وعلى الرغم من أن (ألنزو) قد التقط مدفعه بالفعل، إلا أن مشهد (أدهم) وهو ينقض عليه بجواده، جعله يتراجع فى ذعر، قبل ان يتمالك نفسه، ويحاول تصويب مدفعه إليه ...
ولكن فى حرب السرعة، يفوز (أدهم) دوماً ...
فقبل أن يكمل (ألنزو) حركته، كانت أصابع (أدهم) الفولاذية تقبض على عنقه، وتنتزعه من الأرض بقوة مدهشة، وهذا الأخير يقول :
    - أرقت الكثير من الدماء الطاهرة يا هذا .
جحظت عينا (ألنزو)، وضرب الهواء بقدميه فى هلع، وحاول أن يرفع مدفعه مرة أخرى، مع ضغط أصابع (أدهم) المؤلم على عنقه، ولكن (أدهم) هوى على جبهته، بضربة تكفى لتحطيم جدار، وهو يكمل :
    - وستدفع الثمن .
دار رأس (ألنزو)، مع قوة الضربة، وسقط مدفعه أرضاً، فرفعه (أدهم) بقوة أكبر، وألقاه أمامه على الجواد، قبل أن يستدير مرة أخرى؛ ليواجه سيارة البارون، الذى راح يصرخ فى رجاله :
    - ماذا تنتظرون ؟!... اقضوا عليه .
ولكن رجاله كانوا يعانون من مشكلة تكنولوجية عجيبة ...
لقد سقطت مدافعهم، واختلطت ببعضها البعض، وعندما التقط كل منهم مدفعاً، لم تتوافق بصمته مع زناده ...
ولم تنطلق المدافع ...
وفى نفس الوقت، الذى انطلق فيه (بدرو) والآخرون، مبتعدين عن المزرعة، وفقاً لخطة (أدهم)، نهضت (كاترين) من مخبأها، بكل ما يملأ نفسها من غضب، وصرخت وهى تصوًَّب مدفعها إلى (أدهم) :
    - مدفعى يعمل .
وأطلقت النار ...
نحو (أدهم) ...
مباشرة .
*            *            *

الفصل الحادي عشر: قبضة العدو
ضغط الرجل زناد مدفعه الأليكترونى بالفعل، وهو يصوًَّبه نحو (منى) فى إحكام، وهى لا تحمل سوى مدفع مماثل، لا يستجيب زناده لبصماتها ...

وانطلقت الرصاصة ...

ولكن قبل إنطلاقها، بجزء من الثانية، ارتطمت أغلال معدنية بوجه الرجل فى عنف، فأغلق عينيه على نحو غريزى، وأطلق صرخة ألم، مع سباب بذئ بالإسبانية ...

وطاشت رصاصته فى الهواء ...

ولم تضيع (منى) ثانية واحدة، من الفرصة التى اتاحتها لها مبادرة (قدرى)، فوثبت من مكانها كنمرة شرسة، وهوت بالمدفع الذى تحمله، بكل ما تملك من قوة، على رأس الرجل، الذى تفجًَّرت منه الدماء فى عنف، وسقط أرضاً كالحجر ...

وعبر نافذة الصندوق الخلفى، برز (قدرى) فى حذر مغمغماً :

          - هل ربحنا ؟!

أجابته (منى)، وهى تفحص المدفع الذى تحمله :

          - مؤقتاً .

تنًَّهد فى ارتياح، وهو يقول :

          - ابحثى عن مفاتيح الصندوق الخلفى إذن، فلن يمكننى عبور هذه النافذة الضيقة، كما فعلت أنت .

بحثت (منى) فى جيوب الرجلين فى سرعة، حتى وجدت المفتاح المطلوب، ودارت حول السيارة، وهى تفتح الصندوق، قائلة :

          - هذا يريك أهمية الرشاقة .

غادر (قدرى) الصندوق فى صعوبة، وهو يقول :

          - لاحظى أن مهارتى هى ما انقذنا، بغض النظر عن الحجم .

ابتسمت، وهى تعاونه على مغادرة الصندوق، قائلة :

          - ليس أمامى سوى الاعتراف بهذا .

لهث وهو يقف على رمال الصحراء، كما لو أنه قد بذل جهداً رهيباً، فاتسعت ابتسامتها، وهى تقول:

          - لقد كنت بطل هذه الجولة .

تهللت أساريره، وهو يقول :

           - حقاً !

ربتت على كتفه المكتظة، وهى تقول :

          - ولكن الحرب لم تضع أوزارها بعد .

سألها، وهو يشير إلى المدفع الذى تحمله :

          - لماذا لم ينطلق هذا ؟!

أجابته، وهى تنتزع الرجل فاقد الوعى، من خلف عجلة القيادة:

          - إنه نوع شديد التطوًَّر من الأسلحة، لا يعمل إلا إذا تعرف بصمة صاحبه، وهو مزوًَّد بجهاز إضافى لهذا .

قال فى اهتمام، وهو يلتقط المدفع منها :

          - دعينى ألقى نظرة.

ناولته إياه، قبل أن تحتل مقعد القيادة، قائلة :

          - المهم ان نبتعد الآن عن هنا؛ فمع أسلحة كهذه، أظن أن (أدهم) يواجه خطراً مضاعفاً .

غمغم، وهو يستقل المقعد المجاور لها، مواصلاً فحص المدفع:

          - لا شك عندى فى هذا .

ثم أضاف فى ثقة، وهى تنطلق بالسيارة :

          - ولكن (أدهم) مازال يستطيع رعاية شئونه .

فى نفس اللحظة التى نطقها، كانت (كاترين) تطلق لهيب قاذفة النيران فى مدفعها، نحو (أدهم) مباشرة ...

*                           *                           *

من حكمة الله (سبحانه وتعالى)، أن كل مخلوقات الأرض، بلا استثناء، تخاف النار، وترتجف لمجًَّرد مرآها ...

وعندما اختارت (كاترين) أن تطلق قاذفة اللهب، وليس الرصاصات من مدفعها، المزوًَّد بكليهما، كانت تدرك هذه الحقيقة ...

وكانت تجيد التصويب، على نحو مدهش ....

ومن الفوهة الإضافية لمدفعها، انطلق لسان من النار نحو (أدهم) مباشرة ...

ولكن (أدهم) تحًَّرك على نحو مدهش .

لقد جذب (ألنزو) من عنقه، ورفعه بقوة مدهشة، ووضعه أمام لسان النار مباشرة ...

وانطلقت صرخة هائلة من ذلك الوحش، عندما اشتعل جسده كله دفعة واحدة، اثر طلقة قاذفة اللهب ...

وفى نفس لحظة اشتعال جسده، ألقاه (أدهم) بعيداً، ثم انطلق بجواده الأسود المفضًَّل، الذى أحسن تدريبه، نحو سيارة البارون، التى تختفى خلفها (كاترين)، وهو يقول فى حزم :

          - أخبرتك أننى أبغض ضرب النساء .

وثب بجواده فوق سيارة البارون، فى نفس الوقت الذى أدارت فيه (كاترين) فوهة مدفعها نحوه؛ لتطلق لسان لهب آخر، ولكنه قبض على شعرها الطويل، وهو يضيف فى صرامة :

          - لو تصًَّّرفن كنساء .

امتزجت صرختها بصرخات (ألنزو) المشتعل ، عندما رفعها (أدهم) من شعرها بقوة، ثم ضرب بها سيارة البارون فى عنف، قبل حتى أن تستقر قوائم جواده أرضاً، وانطلق يعدو بجواده الأسود، ليغيب كلاهما فى قلب الليل، فى نفس الوقت، الذى حاول فيه بعض رجال البارون إنقاذ قائدهم (ألنزو)، بوساطة الرمال، التى تحيط بهم ...

أما (كاترين)، فقد عجزت لحظات عن استعادة توازنها، مع عنف الضربة، وحاولت أن تنهض، وهى تصرخ بكل غضبها :

          - هذا المصرى اللعين ...

صرخ البارون يقاطعها :

          - هل ستتركونه يفر ؟!

كان الرجال قد نجحوا فى إطفاء نيران (ألنزو)، الذى احترق شعره، وجانب من وجهه، وفقد الوعى من شدة الألم، عندما هتفت (كاترين) :

          - مستحيل !... سننطلق خلفه فوراً .

ثم صرخت فى الرجال :

          - هيا ... سنطارده بخمس سيارت، وجيش منكم ... هيا .

تردًَّد الرجال لحظات، خاصة وأن كل منهم لم يعثر على مدفعه بعد، فصرخت مرة أخرى فى غضب هادر :

          - قلت هيا .

راقب البارون فى عصبية سيارت الجيب الخمسة، التى انطلقت خلف (أدهم)، فى ظلام صحراء (المكسيك)، وغادر سيارته فى حذر، وهو يقول بنفس العصبية :

          - هل فرًَّ الجميع ؟!

أجابه أحدهم فى توتر :

          - لقد باغتونا أيها البارون، و ...

صرخ يقاطعه بكل غضبه وانفعاله :

          - أغبياء .

ثم حاول السيطرة على أعصابه، وهو يضيف :

          - ولكنهم لن يذهبوا بعيداً... الصحراء حولنا مترامية الاطراف، ولدينا ثلاث طائرات هليوكوبتر، مزوًَّدة بكواشف ضوئية قوية ... سنرسل واحدة لمساندة (كاترين) وفريقها، واثنين للبحث عن الهاربين ...

سأله أحد الرجال فى حذر :

          - وماذا عن القائد (ألنزو) ؟!

القى نظرة ازدراء على قائد قواته الفاقد الوعى، واجاب فى مقت :

          - لم يعد يصلح للقيادة .

ثم أشار إلى آخر، مستطرداً فى حزم :

          - أنت القائد الآن يا (فرناندو) .

تألقت عينا (فرناندو)، وهو يتخذ وقفة عسكرية، قائلاً فى ابتهاج، لم يستطع اخفاءه:

          - كيف أثبت لك أننى جدير بالقيادة يا سيًَّدى البارون ؟!

مال البارون نحوه، وقال بكل شراسة :

          - اعثر عليهم .

أدى (فرناندو) تحية عسكرية قوية، وكأنما يثبت ولاءه، فمط البارون شفتيه، وغمغم بالألمانية :

          - أغبياء .

فى نفس اللحظة، كانت (كاترين) تقود سيارات الجيب الخمسة، التى تضم دستتين من الرجال، عبر صحراء (المكسيك)، وهى تقول فى صرامة :

          - أجهزتنا المتطوًَّرة سترصد وقع حوافر جواده، ورادارنا سيحًَّدد موقعه بدقة .

قال أحد رجالها فى حزم :

          - ستكون أسعد لحظات حياتى، عندما أفرغ رصاصات مدفعى فى رأسه .

التفتت إليه فى حدة :

          - كلا .

نظر إليها الرجل فى دهشة، فتابعت بنفس الحدة :

          - لن أرضى بنهاية سهلة كهذه .

وتألقت عيناها، فى وحشية تتعارض مع جمالها، وهو تضيف :

          - أريده أن يموت ببطء ... بمنتهى البطء .

التقطت أجهزة سيارتها، فى نفس اللحظة، وقع حوافر جواد (أدهم)، فسرى الانفعال فى كيانها، وهى تسأل فنى الرادار :

          - هل ترصده ؟!

أجابها، بعد لحظة من التردًَّد :

          - نعم ... ولكن ...

لم يتم عبارته، وكأنه لا يجد ما يضيفه، فصاحت به فى حدة :

          - ولكن ماذا ؟!

تردًَّد لحظة أخرى؛ خشية رد فعلها، ثم غمغم فى حذر :

          - ما أرصده هو جواد منفرد، ينطلق وحده فى الصحراء ...

واصل تردده لحظة أخرى، قبل ان يضيف :

          - بلا راكب ... ولكن هناك شئ آخر ...

انعقد حاجباها الجميلين فى شدة، وهى تهبط؛ لتلقى نظرة على شاشاة رادار السيارة، قائلة فى حدة:

          - ماذا تعنى ؟!

لم تكن بحاجة حقاً إلى إجابة الرجل، وهى تتطلًَّع إلى الشاشة الخضراء، التى بدا عليها جواد منفرد، ينطلق وحده فى الصحراء، فقالت فى حدة :

          - ما الذى يعنيه هذا ؟!

وهنا قفز الجواب المفزع إلى ذهنها ...

وياله من جواب! ...

*                           *                           *

لم يشعر البارون فى حياته كلها بالغضب، مثلما شعر به، وهو يعود إلى المزرعة، وإلى حجرة مكتب (أدهم) الخاصة

 لقد تصوًَّر، عندما ألقى القبض عليه، ووضعه فى حجرة مجهًَّزة بأحدث ما يمكن للمال شراءه، من تكنولوجيا أمنية، أنه قد نجح فى تحقيق ما فشلت فيه أجهزة مخابرات كاملة، وقضى على أسطورة (رجل المستحيل) ...

وعلى الرغم من أنه قد قرأ ملف (أدهم) الضخم بالكامل، أكثر من ثلاث مرات، إلا أنه لم يكن يتصوًَّر أنه ذكى واسع الحيلة إلى هذا الحد ....

وكان هذا يطعن غروره فى مقتل ...

ويؤلمه ...

وبشدة ...

" لماذا تأخرت ؟!..."...

فاجأه صوت (أدهم) الساخر، فور دخوله المكتب، فالتفت إلى مصدره بأقصى سرعة، إلا أن ذراع (أدهم) كانت أسرع، وهى تحيط بعنقه، ويده الأخرى تلوى ذراعه خلف ظهره، وهو يواصل بنفس السخرية :

          - من أين تنتقى رجالك بالضبط أيها البارون؟!... إنهم لا يعلمون حتى أبسط قواعد مناورة الكر والفر .

هتف البارون، فى صوت عصبى مختنق :

          - ولكن كيف ؟!... لقد شاهدتك تبتعد بجوادك !!..

أجابه (أدهم)، وهو يشدًَّد من ضغط ذراعه على عنقه، ويغلق الباب خلفهما بقدمه :

          - ولكنك ورجالك الحمقى، لم تشاهدوا ما حدث بعدها، وتصوًَّرتم فحسب، أن الفرار هو هدفى الرئيسى .

امتلاءت نفس البارون بالغضب، مع عبارة (أدهم) الأخيرة ...

كيف أخطأ فى هذا، وهو الذى أخبر (كاترين) منذ قليل، ان أمثال (أدهم) لا يفرون ...

بل يقاتلون ...

وحتى آخر رمق ...

ولقد تضاعف غضبه وغيظه ألف مرة، عندما أضاف (أدهم) ساخراً :

          - والآن لقد نسيت عد الجولات ... أهى الرابعة أم الخامسة .

غمغم البارون مختنقاً :

          - المباراة لم تنته بعد .

أطلق (أدهم) ضحكة ساخرة قصيرة، وقال :

          - لماذا يلوح لى انك تكرًَّر عباراتك دوماً يا هذا ؟!

لم يكن البارون يطيق الموقف، ولكنه بذل جهداً، ليقاوم ذلك الاختناق، مع اعتصار ذراع (أدهم) لعنقه، وهو يقول :

          - ماذا تريد يا سيًَّد (أدهم) ؟!

أجابه (أدهم) بنفس السخرية :

          - ياله من سؤال !... أريد مزرعتى أيها المحتل .

قال البارون فى صعوبة:

          - وماذا لو ضاعفت العرض مرتين ؟!

هزًَّ (أدهم) كتفيه، قائلاً :

          - عندئذ سأضطر لقتلك، وهذا يخالف مبادئى، ولن تربح عندئذ سوى امتار قليلة، تكفى لدفن بقاياك فحسب ... وحتى هذا ، لن يكون فى مزرعتى .

صمت البارون لحظات، ثم قال :

          - هل تتصوًَّر أنك غير قابل للهزيمة يا سيًَّد (أدهم) ؟!

شدًَّد (أدهم) من ضغط ذراعه على عنقه، وهو يقول فى صرامة :

          - بل أتصوًَّر أنك لست ممن يعترفون بهزيمتهم يا هذا .

قال البارون فى حدة، على الرغم من آلام عنقه :

          - هزيمة ؟!... كًَّلا يا رجل ... الهزيمة مازالت بعيدة، أكثر مما تتصوًَّر .

مع آخر كلماته، اقتحمت (كاترين) مع فريقها حجرة المكتب فجأة، وهتفت بكل انفعالها، والكل يصوًَّب مدافعه إلى (أدهم) :

          - كما توقعت تماماً .

أدار (أدهم) البارون فى سرعة، دون أن يفلت عنقه، ليواجه مدافع رجاله، و(أدهم) يقول :

          - عظيم أيتها الشرسة... لقد أثبت أنك أكثر براعة من زعيمك .

قالت فى غيظ :

          - براعتى لا تتمثل فى كشف خدعتك فحسب أيها المصرى، ولكن فى العثور أيضاً على السلاح الوحيد، الذى لا يمكنك مقاومته.

قال فى سخرية :

          - وهو ؟!

أشارت بيدها لرجالها، وهى تجيب :

          - هذان .

ومع قولها، دفع رجاله شخصين مقيدين بإحكام إلى داخل حجرة المكتب ....

وانعقد حاجبا (أدهم) فى شدة ...

لقد كانا بالفعل نقطة ضعفه الوحيدة ...

والسلاح القادر على هزيمته ...

زميلته وحبيبته، وصديق عمره ...

(منى) .... و(قدرى) ...

ولثوان، ران على المكان كله صمت رهيب، قبل أن تغمغم (منى) فى مرارة :

          - سامحنى .... لم أستطع طاعة أوامرك.

وغمغم (قدرى) فى انهاك :

          - لقد أخبرتها .

بدت (كاترين) سعيدة بانتصارها، وهى تقول :

          - والآن ماذا يا سيًَّد (ادهم) ؟!

بدا (أدهم) شديد الصرامة، وهو يقول :

          - مازلت أسيطر على زعيمك، ويمكننى تحويله إلى زعيم سابق، بضغطة إضافية من ذراعى .

غمغم البارون فى صعوبة:

          - سيعنى هذا مصرع أقرب شخصين إليك .

أجابه (أدهم) فى قسوة :

          - وهل من المفترض أن أتصوًَّر أنكم ستبقون على حياة ثلاثتنا، لو أننى استسلمت ؟!

رفعت (منى) رأسها، وهى تقول فى حزم :

          - لا تستسلم يا(أدهم) .... أنت على حق ... مادمنا وقعنا فى قبضتهم، فسيقتلوننا على أية حال .

جذبتها (كاترين) من شعرها فى شراسة، وهى تقول :  

          - سأمهلك دقيقة واحدة يا سيًَّد (أدهم)؛ لتتخذ قرارك، وبعدها سأطلق النار على رأس أحدهم، ولك أن تختار أيهما .

قال (قدرى) فى سرعة :

          - أنا .

وجد (أدهم) نفسه أمام خيار عسير للغاية ...

دراسته لشخصية (كاترين)، تؤكًَّد أنه ليس تهديداً أجوف ...

إنها لن تتردًَّد فى إطلاق النار على أحدهما بالفعل ....

(منى) ....

أو (قدرى) ...

وهو غير مستعد لخسارة أحدهما ...

مهما كان الثمن ....

ولكن استسلامه قد يعنى القضاء على كليهما ...

فماذا يمكنه أن يفعل، فى مثل هذا الموقف العصيب ؟!...

ماذا ؟!

*                           *                           *

الفصل الثاني عشر : الخيار الصعب
" رأس الأفعى ..."...
نطقها (أدهم) فى صرامة شدبدة، جعلت (كاترين) تعقد حاجبيها فى شدة، خاصة وأنه قد نطقها بالأسبانية، وكأنه يتعًَّمد أن يستوعبها الكل، فهمهم البارون بكلمات مختنقة، مع ضغط ذراع (أدهم) الشديد على عنقه، فى حين تابع هذا الأخير، وقد أضيفت قسوة مخيفة إلى صرامته:
قاعدة تعلمناها فى عالمى أيتها الحقيرة ... أن رأس الأفعى هى مكمن كل قوتها .
قالت (كاترين) فى شراسة، وهى تلصق فوهة مدفعها بصدغ (منى) :
الوقت يمضى بسرعة أيها المصرى .
أجابها (أدهم) فى لهجة مخيفة :
    - بالنسبة لمن ؟!... بارونك الحقير هذا قرأ ملفى جيداً، وهو يدرك الآن أن كل كلمة أنطق بها، تعنى منطوقها بالضبط، وإنه لا يوجد حرف أجوف واحد فيها .
قالت فى شراسة :
    - ثلاثون ثانية تبقت .
لم يبد أن عبارتها أقلقته، وهو يتابع بنفس اللهجة :
    - أنت تعرضين إما قتل أحد رفاقى، أو موتنا جميعاً، بعد وقوعنا فى قبضتكم، ولكننى أقدًَّم لك عرضاً آخر .
جذبت إبرة مدفعها، وهى تقول، فى شراسة أكبر :
    - خمس وعشرون ثانية .
واصلن متجاهلاً توقيتها :
    - إن مسست شعرة واحدة، من رفيًَّقى، سأحطم عنق بارونك هذا أمامك، كما لو كان عنق دجاجة ضعيفة .
ثم أدار عينيه فى وجوه الرجال المحيطين بها، متابعاً بإسبانية واضحة :
    - وهذا سيعنى مصرع ممًَّولكم الأساسى، وضياع كل الأموال، التى ينفقها عليكم، من اجل بناء امبراطوريته الوهمية، وعندئذ، لن يكون هناك مبرًَّر للاستمرار.
جحظت عينا البارون، وراح يشير لرجاله بذراعيه، فى حين أدركت (كاترين) ما يحاول (أدهم) فعله، فصرخت :
    - خمس عشرة ثانية أيها المصرى .
ضغط (أدهم) عنق البارون أكثر، وهو يقول بمنتهى الصرامة :
    - لقد قدمت عرضى .
وبصوت مختنق، قال البارون، وهو يضرب الهواء بذراعيه فى استماتة :
    - أوقفوها .
شعرت (كاترين) بغضب هادر، وضغطت زناد مدفعها بالفعل ...
وانطلقت الرصاصة ...
ولكن قبل انطلاق رصاصتها بثانية واحدة، جذب (فرناندو) معصمها فى قوة، وشعرت (منى) بلغم نيران الطلقة، على مسافة سنتيمترات من رأسها، وبدوى كاد يصيب أذنها بالصمم، و(فرناندو) يصرخ فى (كاترين) :
    - ألا تعنيك حياة البارون ؟!
قاومته (كاترين) فى شراسة وحشية، وهى تصرخ :
    - المصرى يخدعكم .
تكالب الرجال للسيطرة عليها، وانتزاع المدفع منها، وراحت هى تقاومهم فى شراسة مدهشة، حتى خفًَّف (أدهم) من ضغط ذراعه على عنق البارون، الذى شهق فى ألم، وملأ صدره بالهواء فى لهفة، قبل أن يهتف :
    - كفى .
توقف الجميع دفعة واحدة مع هتافه، والتفتوا إليه ...
حتى (كاترين) نفسها ...
وفى غضب هادر، قال البارون :
    - غضبك فاق ولاءك يا (كاترين) .
صرخت، مستعيدة مقاومتها :
    - المصرى يخدعك .
قال فى عصبية :
    - ملفه يقول : عكس هذا .
صرخت :
    - ملفه يقول : إنه لا يقتل أبداً .
صرخ بدوره فى حدة :
    - ولا يحنث بكلمة .
ثم حاول أن يتماسك، وهو يضيف بلهجة آمرة :
    - (فرناندو) ... خذ سلاح (كاترين) ، وألغ تعًَّرف بصمتها، حتى تتعلًَّم كيف تستخدمه فى المستقبل .
صرخت (كاترين) فى وحشية، فانعقد حاجباه وهو يستطرد :
وأطلق النار على رأسها الجميل، إذا ما واصلت هذا الصراخ المزعج .
اتسعت عينا (كاترين) فى هلع، فى حين جذب (فرناندو) إبرة مسدسه، وهو يقول فى ابتهاج واضح:
    - أمرك يا سيًَّدى البارون .
أطبقت (كاترين) شفتيها، وهى ترمق البارون بنظرة ساخطة، فى حين قال هو، وقد استعاد الكثير من هدوئه :
    - وحلوا قيود ضيفينا الجديدين، واخبر (ماريا)، أنه هناك من سينضم إلى مائة إفطارى فى الصباح .
اندفع (قدرى) يسأل فى لهفة :
    - ألا يمكننا تناول بعض الطعام الآن ؟!
ابتسم البارون، قائلاً:
    - بالطبع يا عزيزى (قدرى) .... لقد قرأت الكثير عن مواهبك وقدراتك الفنية الفذة ... وعن نهمك للطعام بالطبع، وأظن أنه لدى عرض مدهش لك، سيتيح لك تناول طعامك، فى أفخم مطاعم العالم، ما قى لك من العمر .
قال (أدهم) فى صرامة، وهو يعيد الضغط على عنقه :
    - لن يقبل أى منا عروضك يا هذا .
بدا البارون هادئاً هذه المرة، وهو يقول :
    - ذراعك تؤلمنى يا سيًَّد (أدهم)، وأنا أفكًَّر فى فتح صفحة جديدة معكم .
قالت (منى)، وهى تتحسًَّس معصميها، عد فك قيودها :
    - ورجالك يصوًَّبون مدافعهم إلينا .
صمت لحظة، ثم قال :
    - أنت على حق يا سنيوريتا ... خذ الرجال إلى الخارج يا (فرناندو)، واتركونى مع أصدقائى الجدد هنا .
قالت (كاترين) فى عصبية :
    - أنت ترتكب أكبر خطأ فى حياتك .
انعقد حاجباه فى غضب، وهو يهتف :
    - هيا .
تردًَّد (فرنادو) لحظة، ثم تراجع مع رجاله، و(كاترين) تهتف :
    - لا تقل إننى لم أحذرك.
وما أن أغلق (فرناندو) الباب خلفه، وبقى البارون وحده، مع (أدهم) و(منى) و(قدرى)، حتى قال فى هدوء عجيب :
    - ذراعك يا سيًَّد (أدهم) .
أفلت (أدهم) عنقه، ولكنه ظل ممسكاً بذراعه خلف ظهره، وهتفت (منى) فى سعادة:
    - لقد فعلتها يا (أدهم) .
ولكن (أدهم) استقبل سعادتها بصرامة باردة، وهو يسألها بالعربية :
    - كيف ظفروا بكما ؟!
أدركت غضبه، فتراجعت مغمغمة :
    - إنهم يمتلكون تكنولوجيا فائقة .
واندفع (قدرى) يقول :
    - سأخبرك .
وبدأ يروى ما حدث ...
*            *            *
كانت (منى) تنطلق بالسيارة، وسط ظلام صحراء )المكسيك)، عندما سمعت ذلك الانفجار من بعيد، فزادت من سرعة السيارة، وهى تقول فى عصبية :
    - أراهن أنه (أدهم) .
تمتم (قدرى) فى توتر شديد :
    - مازلت أصر على أننا قد أخطأنا، عندما خالفنا أوامره.
أجابته، وهى تواصل الانطلاق بالسيارة :
    - لا يوجد أى خطأ هنا ... إنها ...
قبل أن تتم عبارتها، ظهرت سيارات الجيب الخمسة، فجأة، من قلب الظلام، وفى مقدمتها سيارة (كاترين)، التى قالت لفنى الرادار فى صرامة :
    - لقد كنت على حق ... إنها سيارتنا .
كانت تضع على عيينها منظاراً خاصاً بالرؤية الليلية، يجعلها ترى (منى) و(قدرى) داخل مقصورة فى وضوح، فأردفت :
    - وبها الهدية، التى كان ينتظرها البارون .
بإشارة من يدها، اتخذت سيارات الجيب الخمسة تكنيكاً انتشارياً هجومياً، ورأتهم (منى) يحاولون محاولة سيارتها، فأدارت عجلة القيادة فى سرعة، وهى تهتف برفيقها :
    - انخفض .
سمع (قدرى) الكلمة واستوعبها، ولكنه لم يدر كيف يضعها موضع التنفيذ، مع كرشه الضخم، الذى يلتصق بتابلوه السيارة بالكاد، فاكتفى بالانحناء، وهو يهتف :
قلت لك: إننا قد أخطأنا .
لم تنتبه هى لعبارته، وهى تحاول بسيارتها الثقيلة مناورة السيارات الخمس القوية التى التفًَّت حولها بالفعل، وفوجئت بصوت (كاترين)، يأتى عبر جهاز الاتصال بالسيارة، وهى تقول فى صرامة :
    - هناك دستتان من المدافع القوية، مصوًَّبة إلى سيارتك أيتها المصرية ... لا فائدة من المناورة.
لم تبال (منى) بقولها، وهى تواصل الانطلاق بالسيارة، فتابعت (كاترين)، فى لهجة حملت الكثير من السخرية هذه المرة :
    - لا بأس ... دعينى أعرض عليك إذن بعض مهارتنا.
مع قوتها، توقًَّف تحرك سيارة (منى) فجاة، وانطفأت كل أنوارها، وراحت تواصل حركتها فى تباطؤ منتظم، و(كاترين) تواصل بدورها، ولهجتها تزداد سخرية :
    - إنك تستقلين واحدة من سيارتنا، وكلها مزوًَّدة بمستقبل للتحكًَّم عن بعد، وبوسائل أمن أخرى، ستختبرينها بنفسك، بعد لحظات .
شعر (قدرى) باليأس، عندما توًَّقفت السيارة فى النهاية، واحاطت بها السيارات الخمس، ورفع كل رجالها مدافعهم نحوها، فضغطت (منى) زر الاتصال فى الجهاز، وقالت فى حدة :
    - وهل وسائلكم هى إطلاق النار فحسب .
أجابتها (كاترين)، وقد امتزجت شراستها بسخريتها :
    - بل هى أكثر تطوراً .
مع نهاية قولها، سرى تيار كهربى فى مقصورة القيادة كلها، جعل (منى) و (قدرى) يرتجفان فى قوة، فى حين علت ضحكات (كاترين) الظافرة، وراحت تتردًَّد فى صحراء وجبال (المكسيك)...
بمنتهى السخرية ...
ومنتهى الشراسة...
*            *            *
" ثم أفقنا، لنجد أنفسنا مكبلين بالأغلال هنا ..."..
نطق (قدرى) العبارة فى انفعال، واستقبلها (أدهم) بنفس الوجه الجامد الصارم، فى حين قال البارون :
    - هل يمكننا أن نبدأ صفحتنا الجديدة أيها السادة ؟!
أجابه (أدهم) فى صرامة :
    - لا داع لاستخدام صيغة الجمع يا رجل؛ فرفاقى سيغادران المكان، قبل أن نبدأ حديثنا .
غمغم (قدرى) فى ضيق :
    - وماذا عن الطعام ؟!
رمقت (منى) (قدرى) بنظرة صارمة، جعلته يقول مرتبكاً :
    - لن يتعارض هذا مع الخطة ... أليس كذلك ؟!
ابتسم البارون لحوارهما، ابتسامة قط، وجد سبيلاً إلى فريسته، وقال :
    - سيًَّد (أدهم) ... دعنا نتحاور بالمنطق ... كيف يمكننى أن أسمح لهما بالرحيل، وهما سلاح تفاوضى الوحيد؟!... ماذا يمكن أن أربح عندئذ ؟!
أجابه (أدهم) فى صرامة:
    - حياتك .
نطقها، وهو يلوى ذراع البارون أكثر، على نحو مؤلم، فتأوه الرجل لحظة، ثم قال فى توتر:
    - وماذا عن حياتك أنت ؟!
لم يفهم (أدهم) ما يعنيه السؤال، و ...
ولكن فجأة، بدأ رأس (قدرى) يدور على نحو عجيب، وتخاذلت قدماه، فحاول الاستناد إلى أى شئ، وهو يغمغم فى ضعف :
    - (أدهم) ... إننى ...
لم يستطع إتمام عبارته، وهو يفقد توازنه،ويسقط  على ركبتيه أرضاً، فى نفس الوقت الذى تهالكت فيه (منى)، على نحو ملحوظ، وهى تقول فى ضعف :
    - إنها ليست مشكلة الطعام .
قالتها، ثم ألقت نفسها على مقعد قريب، وكأنما لا تقوى ساقاها على احتمالها، فى حين بدأ ذلك الدوار يكتنف رأس (أدهم)، الذى عاد يحيط عنق البارون بذراعه، وهو يقول فى غضب :
    - ماذا فعلت أيها التعس ؟!
قالها، فى نفس اللحظة، التى سقط فيها (قدرى) على وجه، وأسبلت (منى) جفنيها فى انهيار عجيب، وبدأ (أدهم) يشعر بضعف حقيقى، حتى أن ذراعه لم تعد بالقوة الكافية، لاعتصار عنق البارون، الذى ظل قوياً متماسكاً، وهو يقول :
    - المشكلة أنك تقدًَّر وسائلنا الأمنية حق قدرها، يا سيًَّد (أدهم)، فالواقع أنه ليست لدينا (ماريا) هنا... إنها مديرة منزلى هناك... فى (مانهاتن)... ولكن العبارة كانت تعنى استخدام غاز خفى خاص ...ابتكرته القريحة الألمانية، إبان الحرب العالمية الثانية، وتم تطويره فى معاملى الخاصة، على نحو مدهش ... لقد اطلقه رجالى فى حجرة المكتب، فور إغلاقهم بابه، وهو يتسلًَّل إليك، دون أن تشعر، فتستنشقه، ويملأ رئتيك، ويسرى فى دمك، ويتصاعد إلى مخك، فيفقدك السيطرة على عضلاتك فى البداية .
قالها، وهو يدفع ذراع (أدهم)؛ لتخليص عنقه منها، ثم ابتسم قائلاً:
    - أرأيت ؟!
شعر (أدهم) بضعفه يتزايد، زالبارون يتحًَّرك فى مكتبه بحيوية، متابعاً فى ظفر:
    - وبعدها يتهالك جسدك كله ... وتسيطر عليك رغبة ملحة فى النوم، تعجز حتى الأفيال عن مقاومتها .
كان الرجل صادقاً تماماً فيما يقول؛ فقد شعر (أدهم) أنه يفتح عينيه بالكاد، فقاد نفسه إلى مقعد قريب، تهاوى فوقه فى ضعف، ورأى بعينين نصف مغلقتين، البارون يعود إلى ما خلف مكتبه، ويستقر فوقه، بعينين متألقتين ظفراً، وهو يقول :
    - لا تقاوم يا سيًَّد (أدهم) ... أو يا سنيور (صاندو) ... حتى أنت لن يمكنك المقاومة؛ فمهما بلغت قدراتك وبراعتك، مازلت تمتلك جسداً بشرياً، بكل اجهزته الطبيعية، هيا .... استسلم يا سنيور (صاندو) ... استسلم .
بدا صوت البارون، وكانه يأتى من بعيد، ويغوص فى بئر عميقة ...
ويغوص ...
ويغوص ...
ثم أثبت جسد (أدهم) أن البارون على حق ...
إنه فى النهاية جسد بشرى ...
جسد انهار ...
تماماً ...
*            *        *
شعر (ألنزو) بسخط شديد، عندما استعاد وعيه، مع كل آلام جسده ووجه، وتحوًَّل سخطه هذا إلى غضب هادر، مع تحسسه لرأسه، الذى فقد معظم شعره، وجانب وجهه المحترق، وأطلق صرخة غضب وحشية، وهو يبحث عن سلاحه، قبل أن يأتيه صوت (كاترين)، قائلة :
    - مازلت أراك وسيماً، يا عزيزى (ألنزو) .
التفت إليها فى وحشية، صارخاً :
    - أخبرينى أنكم قد مزًَّقتم ذلك المصرى تمزيقاً .
مطًَّت شفتيها الجميلتين، قائلة :
    - البارون نطق عبارة السر، لاستخدام غاز (ماينهايم)، وأظنهم قد ظفروا به الآن مع رفيقيه .
سألها فى شراسة :
    - أى رفيقين ؟!
هزًَّت كتفيها، وألقت شعرها الطويل خلف ظهرها، فى حركة أنثوية، وهى تجيب :
    - إنها قصة طويلة، سأرويها لك يا عزيزى، ولكن لدى الآن ما هو أكثر أهمية، لأتحدث معك بشأنه .
ضاق ما بين حاجبيه، فى عصبية شديدة، فمالت نحوه، ورسمت على شفتيها الجميلتين ابتسامة عذبة، وهى تسأله :
    - قل لى يا عزيزى: أيهما أكثر أهمية بالنسبة إليك ... نقود البارون، أم الانتقام ممن فعل بك هذا ؟!
زمجر كوحش مفترس، وهو يجيب :
    - النقود يمكن ان تجديها عند أى مخدوم آخر .
اتسعت ابتسامتها، وهى تقول :
    - من الرائع أن نتفق يا عزيزى، فللانتقام لذة خاصة، لا يدرك متعتها سوى من على شاكلتنا .
زمجر مرة أخرى، وهو يسألها فى شراسة:
    - ماذا تريدين بالضبط يا (كاترين) ؟!
اتخذت جلسة شديدة الإغراء أمامه، وهى تقول :
    - العمل مع البارون كان ممتعاً فى البداية، ولكن جنون التفوًَّق والسيطرة، جعل العمل مملاً، وهو الآن يرتكب كومة من الاخطاء، بإصراره على العمل بمعيار مزدوج؛ فهو يريد أن يكون زعيماً قاسياً كأجداده، وسيًَّداً مهذباً فى الوقت ذاته؛ ليتفق مع أصوله العريقة .
مرة ثالثة، زمجر (ألنزو) فى شراسة، قائلاً :
    - هل ستواصلين هذا الحديث الممل طويلاً ؟!
مالت نحوه، قائلة :
    - البارون لم يهتم بعلاجك، عندما سقطت أمام عينيه، وعزلك من قيادة الفريق، ووضع بدلاً منك ذلك الغبى (فرناندو)، الذى أمره بأن يقتلنى بلا تردًَّد، لو صرخت أحذره مما يفعل .
كانت حروقه تؤلمه بشدة، فصاح بها فى حدة :
    - لم أصل إلى ما تريدين بعد .
ابتسمت ابتسامة أكثر إغراء، وقالت :
    - أسلوب البارون هذا، سيجعله يخسر فى النهاية، وكلانا يعلم هذا، والسؤال هو : كيف نضمن أكبر قدر من الربح، قبل ان يحدث هذا ؟!
قال فى عصبية شديدة :
    - أنت من وضع الخطة .
صمتت لحظة؛ لتنح كلماتها أكبر قد ممكن من الاهمية، قبل أن تضيف فى حزم :
    - سنحتل المزرعة، ونقتل البارون .
صدمته الفكرة لحظات، ثم لم يلبث أن عقد ما تبقى من حاجبيه فى شدة، وراح يدرس كلماتها القليلة فى توتر، قبل ان يسألها :
    - وكيف هذا ؟!
تألقًَّت عيناها فى ظفر، وهى تجيب :
    - ساخبرك .
وتحالف الشيطانان معاً ...
*            *            *
" لم نعثر على أى أثر لهم يا سيًَّدى البارون .."..
هذه الكلمات، هى أوًَّل ما التقطته أذنا (أدهم)، وهو يستعيد وعيه فى بطء...
ودون الحاجة إلى حواسه كاملة، أدرك أنه مقيًَّد بإحكام، بأغلال فولاذية شديدة القوة، إلى عمود من الأسمنت، فى جانب حجرة مكتبه الخاص، وهذا يشمل معصميه خلف ظهره، وقدميه أيضاً، وعلى الرغم من أن رأسه مازال يدور، سمع البارون فى وضوح، وهو يقول فى غضب :
    - أى قول سخيف هذا ؟!... إننا نتحًَّدث عن أكثر من ثلاثين رجلاً وامرأة، فى صحراء جرداء، تبعد أكثر من ثلاثمائة كيلو متر، عن أقرب طريق ممهًَّد، فكيف تعجز كل وسائلنا عن رصدهم .
أجابه الرجل فى توتر:
    - لقد انطلقنا خلفهم فوراً يا سيًَّدى البارون، وجبنا المنطقة كلها، طوال خمس ساعات، وحتى أشرقت الشمس، ولم نعثر لهم على أدنى أثر، وكأنما أنشقت الصحراء وابتلعتهم .
غمغم (فرناندو) مضيفاً فى حذر :
    - ولست أذكر أننى قد رأيت امرأة واحدة بينهم، عندما فروا بخيولهم من الأسطبلات يا سيًَّدى.
احتقن وجه البارون، وانعقد حاجباه فى شدة، وهو يقول :
    - التفسير الوحيد لهذا، هو انهم يختبئون فى مكان ما هنا.
قال (فرناندو) فى حيرة:
    - أين يا سيًَّدى ... لقد فتشنا المزرعة كلها، وقلبناها رأساً على عقب، بحثاً عنهم .
أجابه فى حزم :
    - فى الاسطبلات ... لقد اختفوا دون أن يغادروها، ولا تفسير لهذا، سوى أنهم يختبئون فى مكان ما داخلها .
بدت الفكرة عجيبة، بالنسبة لعقلية (فرناندو)، ولكنه اتخذ وقفة عسكرية، وهو يقول :
    - سنفتش كل شبر منها يا سيًَّدى البارون .
أشار إليه البارون، وهو يقول فى تفكير :
    - استخدموا وسائلنا التكنولوجية؛ لكشف أى مخبأ سرى أسفل الاسطبلات ...احفروا أرضيتها، لو استلزم الامر، ولكن امنحونى جواباً، خلال ساعة واحدة ... هل تفهم ؟!
أجابه (فرناندو) فى قوة :
    - أوامرك أيها الزعيم.
ثم انصرف فى سرعة، لتنفيذ الأمر، فقال (أدهم)، وهو يستعيد صفاء ذهنه تدريجياً:
    - سيضيع الكثير من وقته بلا طائل .
التفت إليه البارون، قائلاً :
    - آه... إذن فقد استعدت وعيك .
ثم اتجه إلى مقعد، أمام (أدهم) مباشرة، وهو يضيف :
    - والآن دعنا نعود إلى الحديث عن الجولات يا سيًَّد (أدهم) .
قال (أدهم) فى سخرية :
    - بل دعنى أقتبس عبارتك، عن أن المبارة لم تنته بعد أيها البارون .
رفع البارون حاجبيه وخفضهما، وهو يقول بابتسامة ظافرة:
    - لقد أوشكت يا سنيور (صاندو)، ورفيقاك سيساعدان على إعلان نهايتها .
تطًَّلع إليه (أدهم) بنظرة متسائلة، فلوًَّح بيده، مضيفاً :
    - كنت أصر على أن توًَّقع العقد بنفسك؛ حتى لا يمكنك الطعن فى صحة التوقيع فيما بعد، أو أن يفعل أحد هذا من بعدك، ولكن وصول صاحب الأصابع الذهبية (قدرى)، جعل الأمور أكثر يسراً .
قال (أدهم) فى هدوء:
    - أنت لا تعرف (قدرى) جيداً .
تابع البارون، وكانه لم يسمعه :
    - فوفقاً لما بلغنى عنه، يمكنه أن يزيًَّل العقد بتوقيعك، فى دقة تجعلك أنت نفسك تشك فى صحته .
قال (أدهم) فى صرامة :
    - وكيف سيمكنك إقناعه بهذا ؟!
هزًَّ البارون كتفيه، قائلاً :
    - إنه لم يتناول الطعام، الذى كان يحلم به، منذ ليلة أمس .
ابتسم (أدهم) فى سخرية، وهو يقول :
    - ألم أقل لك : إنك لا تعرف (قدرى) جيداً؟!... هل تصوًَّرت أنه يمكن أن يخون صديق عمره، من اجل وجبة طعام ؟!
قال البارون فى ثقة :
    - سأقدًَّم له وجبة شهية للغاية .
ثم ابتسم فى شراسة، مضيفاً :
    - مع مسدس مصوًَّب إلى رأس صديقته (منى) .
صمت (أدهم) لحظات، ثم قال فى صرامة :
    - مازالت هناك نقطة ضعف كبيرة فى خطتك .
ابتسم البارون أكثر، وهو يقول :
    - لو أنك تقصد ضرورة تواجدك؛ لتاكيد التوقيع، فلدى حل عبقرى لهذا .
وضغط زراً صغيراً، على سطح مكتبه، مضيفاً :
    - وستراه بنفسك .
مع ضغطة الزر، انفتح باب حجرة المكتب، وسمع (أدهم) وقع أقدام تقترب، فالتفت إلى مصدرها ، و ....
وانعقد حاجباه بمنتهى الشدة ...
فقد كان ما يراه أمامه مفاجئاً، إلى حد لا يمكن توًَّقعه ...
أبداً ...
*            *            *

الفصل الثالث عشر: ذلك الآخر
تململ (قدرى) فى مكانه متوتراً، مع تلك القيود القوية، التى تربط معصميه خلف ظهره، مما يرهقه، ويثقل على أنفاسه، وغمغم فى سخط :
    - ياللأوغاد !
تمتمت (منى)، وهى تحاول عبثاً التخلًَّص من قيودها :
    - أظنهم يستخدموننا الآن، للسيطرة على (أدهم) .
قال فى حزم عجيب:
    - (أدهم) سينقذنا .
حمل صوتها مرارة، وهى تقول :
    - إننى أشاركك ثقتك هذه فى (أدهم)، ولكننى أظن أننا قد وضعناه الآن، فى موقف أسوأ من موقفنا .
أجابها فى ثقة شديدة :
    - ولكنه سينقذنا .
حاولت أن تلتفت إليه فى دهشة، ولكن كل منهما كلن مقيداً إلى ظهر الآخر، مما جعل كل ما يمكنها هو ان تدير رأسها قليلاً إلى الجانب، وهى تقول :
    - ألديك شئ لا أعرفه ؟!
أجابها فى حسم :
    - بالتأكيد .
أرادت أن تسأله عما يعنيه هذا، إلا أن (فرناندو) دخل إلى الحجرة، فى هذه اللحظة، وقال فى صرامة، موجهًَّاً حديثه إلى (قدرى) :
    - البارون يطلبك .
قال (قدرى) فى دهشة :
    - أنا ؟!
لم يجبه (فرناندو)، وإنما أشار إلى أحد رجاله، فتقًَّدم ليفصل قيود (قدرى) عن (منى)، وهو يقول فى خشونة :
    - انهض .
اجابه (قدرى) فى توتر :
    - هل تعتقد أن هذا الجسد، يمكنه أن ينهض وحده، بقيود كهذه ؟!
أشار (فرناندو) إلى رجلين آخرين، بذلا جهداً حقيقياً؛ لدفع (قدرى) بجسده الضخم، إلى وضع الوقوف، ثم دفعاه أمامهما فى قسوة، وهو يهتف :
    - و(منى) ... ماذا عن (منى) ؟!
كان يتحدث بالانجليزية، التى من الواضح أن أحداً بخلاف (فرناندو) لا يفهمها، بالإضافة إلى ان أحداً لم يتحًَّدث معه بحرف واحد، وهم يواصلون دفعه أمامهم، حتى بلغوا حجرة المكتب ...
وقبل ان يدخلها (قدرى)، رأى (أدهم) يقف فى منتصفها، إلى جوار البارون، على نحو يوحى بالود، فتساءل فى قلق بالعربية :
هل اتفقتما ؟!
آتاه صوت (أدهم) من ركن آخر، وهو يقول فى صرامة :
    - هذا الوغد لا يفهم العربية .
ارتفع حاجبا (قدرى) بكل دهشته، وهو يلتفت إلى مصدر الصوت، ثم تحوًَّلت إلى ذهول، عندما وقع بصره على (أدهم)، المقًَّيد إلى الركن، فعاد ببصره مرة أخرى، إلى الواقف مع البارون، وصاح ذاهلاً :
    - مستحيل !
أطلق البارون ضحكة ظافرة عالية، قبل ان يقول :
    - هل رأيت يا سنيور (صاندو) ؟!... حتى صديقك الصدوق، لم يمكنه التمييز بينك، وبين شبيهك .
نقل (قدرى) بصره فى ذهول، بين (أدهم) وشبيهه، الذى كان نسخة طبق الأصل منه، فى ملامحه وهيئته، فأضاف البارون برنة انتصار واضحة :    
    - هذا ما يفعله المال أيها المصرى ... رجل يماثلك قامة، مع فريق أكبر وأشهر جراحى التجميل فى العالم، وبعدها يصبح لديك نسخة متقنة، من أشهر رجل مخابرات فى العالم .
لم يستطع (قدرى) النطق، من شدة ذهوله، فى حين قال (أدهم) فى صرامة :
    - تحتاج إلى أكثر من مجًَّرد الشكل للفوز يا هذا .
ابتسم البارون، قائلاً فى ثقة :
    - اترك لى هذه المشكلة .
ثم التفت إلى (قدرى)، قائلاً :
    - هل أنت مستعد لتناول وجبتك الدسمة، يا سيًَّد (قدرى) ؟!
سأله (قدرى) فى عصبية :
    - مقابل ماذا ؟!... انك لم تحضرنى إلى هنا، لتناول وجبة دسمة فحسب .
وضع البارون عقود المزرعة على سطح مكتبه، وهو يقول :
    - أنت على حق أيها البدين .
قال (قدرى) فى حدة :
    - من الذى تصفه بالبدين ؟!
أجابه فى صرامة :
    - أنت أيها الدب ... هيا ...استخدم أصابعك الذهبية؛ لتضع توقيع السيد (أدهم)، بمنتهى الإتقان على هذه الأوراق .
تبادل (قدرى) نظرة متوترة مع (أدهم)، ثم قال فى صرامة :
    - إننى أفضل الموت جوعاً .
بدا البارون ساخراً، وهو يقول :
    - لا تتعجًَّل الأمر يا صاحب الأصابع الذهبية ... ثم أننى لا أعرض عليك الوجبة فحسب .
وقسا صوته مع ملامحه، وهو يضيف :
    - إننى أعرض عليك رأس زميلتك الرقيقة أيضاً .
تضاعف توتر (قدرى)، وتبادل نظرة أخرى مع (أدهم)، الذى قال فى صرامة :
    - وهل ستبقى على رأسيهما، بعد أن تحصل على ما تبتغيه يا هذا ؟1
هزًَّ البارون رأسه، وقال فى برود :
    - لا يمكنك أن تضمن هذا، ولكننى بالتأكيد سأنسف رأس محبوبتك، أمام عينى هذا الدب، إن لم ينفذ أوامرى .
راح (قدرى) ينقل بصره، فى توتر كبير، بين (أدهم)، وشبيهه، والبارون، وبدأ عرق عجيب يتصبًَّب على وجهه، على الرغم من مكًَّيف الهواء القوى، فقال (أدهم)، فى كلمات بطيئة موزونة :
    - نفذ ما يطلبه يا (قدرى) .
تطلع إليه (قدرى) بنظرة متشككة قلقة، ولكنه أومأ برأسه مضيفاً :
    - إنه لن يتوًَّرع عن تنفيذ تهديده القذر .
تردًَّد (قدرى) لحظات، ثم قال فى حذر :
    - لست أدرى كيف يوًَّقع (أدهم) اوراقه هناك .
ابتسم البارون فى سخرية، وهو يجذب ورقة، ويضعها أما عينى (قدرى)، قائلاً :
    - لا عليك ... لقد أحضرت لك نموذجاً لتوقيعه .
  تطلع (قدرى) إلى صورة التوقيع على الورقة، ثم عاد يلتفت إلى (أدهم)، الذى اومأ برأسه إيجاباً، فبدا الضيق على (قدرى)، وهو يقول :
    - حلوا قيودى .
أشار البارون إلى (فرناندو)، فتقًَّدم يحل قيود (قدرى)، الذى فرك كفيه فى ألم، فى نفس الوقت الذى ناوله فيه البارون قلماً، وهو يشير إلى العقود، قائلاً :
    - هيا ... ولاحظ أن لدى هنا خبير تزوير محًَّنك، يمكنه أن يكشف أى تلاعب، وعندئذ ...
لم يتم عبارته، ولكن مضمونها كان واضحاً، فتناول (قدرى) القلم، وصورة التوقيع، ثم اتجه ليجلس خلف مكتب البارون، وجذب العقود إليه، ثم راح يفحص التوقيع فى اهتمام، قبل أن يضع البارون أمامه عدسة مكًَّبرة، قائلاً :
    - ستحتاج إليها .
أزاحها (قدرى) بعيداً، وهو يقول فى حزم، واضعاً يده على فمه :
    - كًَّلا ..
استغرق دقيقة أخرى، فى فحص صورة التوقيع، ثم أمسك الاوراق بمنتهى الثقة، ووقًَّعها فى سرعة وبساطة، جعلت البارون يقول فى دهشة :
    - هكذا ؟!
بدا الشك على وجه البارون، وهو يقول فى صرامة :
    - أحضروا الخبير .
لم تمض ثوان على قوله، حتى دخل رجل أصلع قصير إلى الحجرة، وهو ينقل بصره بين الجميع فى توتر، فناوله البارون العقود، مع صورة التوقيع، واخرج الرجل عدسة كبيرة من جيبه، وراح يقارن بين صورة التوقيع، وذلك التوقيع على العقود، قبل ان يقول، فى انبهار شديد :
    - مدهش !!...
ثم رفع عينيه إلى (قدرى)، مستطرداً بانبهار يتزايد :
    - أنت فعلت هذا ؟!
مطًَّ (قدرى) شفتيه، دون أن يجيب، فى حين غمغم البارون غى حذر :
    - وبمنتهى السرعة والبساطة .
ارتفع حاجبا الأصلع، فى دهشة مبهورة، ثم اندفع يمد يده إلى (قدرى)، هاتفاً :
    - لى كل الشرف أن اصافحك يا رجل ... أنا خبير فى هذا المضمار، منذ أكثر من عقدين من الزمن، ولم أشاهد عملاً بهذا الاتقان قط !!
غمغم (قدرى)، والضيق مازال يملأ صوته، وهو يشيح بوجهه، عن اليد الممدودة نحوه :
    - إنه مجًَّرد توقيع .
خفض الأصلع يده فى حرج، ولكنه واصل بنفس الانبهار :
    - أستطيع أن أضمن لك ثروة طائلة، لو عملنا معاً لعام واحد .
قال (قدرى) فى حدة :
    - دخلى من عملى يكفينى .
شعر البارون بالظفر والرتياح، وهو يقول :
    - وماذا عن عرض بخمسة ملايين دولار، فى العام الواحد ؟!
رفع (قدرى) عينيه إليه فى دهشة، فمال البارون نحوه، وأضاف :
    - وحياة زميلتك أيضاً .
انعقد حاجبا (قدرى) فى شدة، وهو يغمغم :
    - وماذا عن (أدهم) ؟!
تألقت نظرة وحشية فى عينى البارون لحظة، ثم خبت فى سرعة، وهو يجيب :
    - سيبقى هنا فى أرضه...وهذا وعد .
أدار (قدرى) عينيه إلى (أدهم)، الذى ظلًَّ جامداً، ولم تحمل نظراته أية دلالة، فى عينى البارون المتفحصتين، ولكن (قدرى) قرأ فيهما شئ ما ...
شئ جعله يبدو متردًَّداً، وهو يغمغم :
    - هذا العرض يحتاج إلى تفكير .
أشار البارون بسبًَّابته، قائلاً فى صرامة :
    - سامنحك ثلاث ساعات، وهى اطول مهلة منحتها لأية صفقة .
ثم أشار إلى (فرناندو)، فتحًَّرك رجاله ليعيدوا تقييد (قدرى)، ويدفعونه أمامهم إلى خارج الحجرة، وألقى هو نظرة اخيرة على (أدهم)، وهو يغمغم فى أسف :
    - إنه عرض مغر للغاية .
وما ان غادر الرجال مع (قدرى) الحجرة، وخلت إلا من (أدهم) والبارون، تفحًَّص هذا الاخير العقود كلها، ثم عاد بها إلى ذلك المقعد المواجه لرجل المستحيل، وهو يقول :
    - هكذا سحر المال، تكشف يوماً أن الأصدقاء المخلصين، ليسوا بالإخلاص الذى تتصوًَّره .
اجابه (أدهم) فى هدوء :
    - هذا يتوًَّقف على مفهوم (الأكثر قوة) .
أطلق البارون ضحكة ظافرة، قبل أن يقول :
    - القوة هى التى جعلتك تخسر أخر معاركك يا سنيور... سقطت أمامى فاقد الوعى، فى حين بقيت أنا واقفاً على قدمىًَّ فى النهاية؛ بسبب المصل المضاد لغاز (ماينهايم)، الذى استنشقناه جميعاً ... القوة هى التى أغرت صديقك بالتفكير فى عرضى ... أما عن الوعد الذى وعدته إياه، فسأكرًًَّره وأؤكًَّده لك أيضاً ...لو قبل العرض، فسأبقى بالفعل على حياة زميلتك الحسناء، التى ربما أقدًَّم لها عرض أكثر إغراءاً ... أما أنت، فقد اتخذت ما يلزم، لتبقى فى أرضك بالفعل .
ثم انعقد حاجباه، وحمل صوته قسوة وشراسة الدنيا، وهو يضيف :
وإلى الأبد .
*            *            *
" مدفعك مازال يعمل ... أليس كذلك ؟!.."..
ألقت (كاترين) السؤال على (ألنزو)، فى اهتمام بالغ، فأومأ برأسه إيجاباً فى عصبية، وهو يقول :
    - وحروق جسدى مازالت تؤلمنى بشدة .
تحسًَّست الجزء السليم من وجهه، وهى تقول، فى نعومة أفعى :
    - ما سنحصل عليه، سيتيح لك أن تستعيد كل شئ، على يد أكبر جراحى التجميل فى العالم .
زمجر، قائلاً :
    - المهم ان انتقم، ممن فعل بى هذا .
مالت نحوه، قائلة فى حزم :
    - اسمع خطتى جيداً...إننى مازلت أمتلك شفرة الدخول، إلى نظام الأمن الأليكترونى ... سأصعد الآن إلى الوحدة الرئيسية، وسأضيف كوداً جديداً، لكل يتم التعًَّرف فى المدافع الأليكترونية، فيما عدا مدفعك، ومدفع (فرناندو) .
قال فى حدة :
    - ولماذا مدفع (فرناندو) ؟!
أجابته فى خبث :
    - لأننى سأستبدل كود بصمته، بالكود الخاص بى .
انعقد حاجباه، على نحو يوحى بعدم الفهم، فأضافت موضًَّحة :
    - عندئذ سأعرف أى مدفع، ينبغى لى الحصول عليه، عندما تتوقف كل المدافع عن العمل، ومع امتلاكنا للمدفعين الوحيدين، الصالحين لعمل، سنحصد باقى الرجال هنا حصداً، فى دقائق قليلة، وبعدها سنصبح سادة المكان .
سألها بنفس العصبية :
    - وماذا عن البارون ؟!
بدت شديدة الإغراء، وهى تقول :
    - بكم تتصوًَّر أنه سيشترى حياته ؟!
حملت أساريره علامات الفهم لأوًَّل مرة، وهو يقول فى شراهة :
    - بمليارات .
داعبت أنفه بسبًَّابتها، قائلة :
    - بالضبط .
ثم اعتدلت، مضيفة فى حزم :
    - انتظرنى هنا، فى مطبخ المزرعة، وعندما انتهى من عملى، سنبدأ خطتنا على الفور ... كن مستعداً .
تركته فى مطبخ المزرعة، وتسللت بسرعة إلى الطابق الثانى، الذى اتخدوا من إحدى حجراته مركزاً للوحدة الامنية الأليكترونية الخاصة، وفتحت بابها فى هدوء، و ...
" لماذا تأخرت يا عزيزتى (كاترين) ؟!.."..
نطق (فرناندو) السؤال، وهو يبتسم فى سخرية، مصوًَّباً إليه فوهة مدفعه، ومن خلفه ثلاثة من رجاله، يصوبون إليها مدافعهم بدورهم ...
وعلى الرغم من المفاجأة، نجحت (كاترين) فى التماسك، وهى تقول فى صرامة :
    - ماذا تفعل هنا يا (فرناندو)؟!... المفترض أننى المسئول الوحيد عن هذه الوحدة .
تجاهل (فرناندو) عبارتها، وهو يقول، عبر جهاز الاتصال :
    - إنها هنا يا سيًَّدى البارون .
آتاه صوت البارون، يقول فى صرامة :
    - أحضرها .
قالت فى عصبية، وهم يدفعونها امامهم :
    - ستدفعون ثمن هذا .
ابتسم (فرناندو) فى سخرية، ثم التفت إلى بعض رجاله، قائلاً بلهجة آمرة:
    - (ألنزو) ينتظرها فى مطبخ المزرعة ... ولديكم أوامر لتنفيذها .
شعرت بمزيج من الدهشة والقلق مع عبارته ...
كيف علم ان (ألنزو) ينتظرها فى مطبخ المزرعة ؟!..
وما هى أوامر الرجال ؟!..
بلغت حجرة المكتب، قبل ان تصل إلى جواب السؤالين، ولم تدلف إليها، حتى سمعت صوتها عبر جهاز صوتى، وهى تقول :
    - بكم تتصوًَّر أن يشترى حياته ؟!
انهى البارون الجهاز الصوتى، بعد هذه العبارة، وشحب وجهها فى شدة، وهو ينظر إليها ، قائلاً :
    - كمسئولة أمن، كنت تعلمين أن المكان الوحيد بالمزرعة، الذى لم نزودًَّه بأجهزة تنصًَّت، هو المطبخ، وهذه هى لعبتى المفضلة يا عزيزتى (كاترين) ... أن أعلم دوماً مالا يعلمه الجميع ...
قالت فى عصبية :
    - سيًَّدى البارون ... إننى ...
قاطعها بإشارة صارمة من يده، قبل أن يواصل :
    - لقد زوًَّدت المطبخ بنظام تنصًَّت، دون علم الجميع؛ لأننى كنت أدرك أن كل تآمر سيبدأ هناك.
هتفت، محاولة إنقاذ نفسها :
    - لقد كنت ...
قاطعها مرة أخرى، فى صرامة اكثر، وهو يقول :
    - والجميع هنا يعلم، أن اكثر ما أبغضه الخيانة .
راقبها (ادهم) ترتجف فى شدة، ورأى الدموع تسيل من عينيها، وهى تقول منهارة :
    - الرحمة .
مًَّط البارون شتيه، وقال :
    - الرحمة الوحيدة، التى يمكن أن تحصلين عليها هنا، هى ميتة سريعة غير مؤلمة .
 انهارت على ركبتيها أمامه، قائلة :
    - ابق على حياتى، وسأظل أكفًَّر عن هذا الخطأ ما حييت .
تنهًَّد، قائلاً :
    - المشكلة اننى لو تجاوزت عن هذا، فسيتبعك آخرون، وهذا يتعارض مع مخططاتى الرئيسية .
هتفت فى انهيار تام :
    - الرحمة .
قال (أدهم) فى صرامة :
    - لا تتوسلى لهذا الوحش؛ فهو يعشق ما يفعله، وسيقتلك فى كل الاحوال.
اتسعت عيناها، وهى تلتفت إليه، فى حين ابتسم البارون كوحش مفترس، وهو يقول :
    - سنيور (صاندو) على حق ... الرحمة الوحيدة هنا، هى ميتة سريعة .
ثم بدا شديد الوحشية، وهو يضيف :
    - والمشكلة اننى لا أتميًَّز بهذه الرحمة .
صرخت فى ثورة، ووثبت تنقض عليه، صارخة :
    - أيها الوغد الحقير .
وثب رجال (فرناندو) نحوها، ومنعوها من الوصول إلى البارون، وراحوا يكبلونها بأغلال قوية، وهى تصرخ :
    - سيفعل هذا بكم جميعاً ... أنا مجًَّرد بداية .
مع آخر كلماتها، وضع الرجال على فمها شريطاً لاصقاً قوياً، فاحتقن وجهها بشدة، والبارون يقول فى ظفر :
    - هل تعلمين كيف يقتل المكسيكيون الفئران، التى تلتهم محاصيلهم، فى هذه الناحية؟!...إنهم يضعونهم فى وعاء كبير، ممتلئ بالماء، وله جدران عالية ملساء، فيظلون يقاومون بعض الوقت، حتى تنهار مقاومتهم، ويغرقون فى قاع الوعاء .
وانحنى يواجهها مباشرة، وهو يضيف :
    - وأنت بالنسبة لى فأر خائن يا عزيزتى .
اتسعت عيناها فى ارتياع، وراحت تحاول المقاومة فى استماتة، فى حين قال (أدهم) فى ازدراء:
    - لم لا تقتلها فحسب ؟!
أشار بيده، قائلاً بأسلوب مسرحى :
    - لن يكون هذا درامياً بما يكفى .
ثم أشار بيده إلى (فرناندو)، قائلاً :
    - أخبرنى عندما ينتهى الامر؛ لنعد لها دفناً لائقاً .
بدأ الرجال يسحبونها خارجاً، وهى تواصل مقاومتها فى استماتة، فى نفس الوقت الذى وصل فيه الرجال، الذين أرسلهم (فرناندو) خلف (ألنزو)، وقال أحدهم فى توتر :
    - لم نعثر عليه .
وعلى الرغم من وضوح العبارة، سأله البارون فى غضب :
    - لم تعثروا على من ؟!
أجابه الرجل، وتوتره يتزايد :
    - (ألنزو) يا سيًَّدى البارون ... لم نجده فى المطبخ، ولم نعثر عليه، فى اى مكان آخر فى المزرعة .
انعقد حاجبا البارون فى شدة، وأسرع إلى جهازه الخاص، ورفع صوته ، وهو يعيده بعض الوقت إلى الخلف ...
وعبر ما سجله جهاز التنصًَّت منذ قليل، سمع البارون مفاجئة فى المطبخ، مع وقع أقدام عديدة، وصرخة عصبية من (ألنزو)، وبعدها أصوات توحى بقتال عنيف ...
ثم صمت ...
صمت تام ...
وتفجًَّر غضب البارون ...
إلى أقصى حد .
*            *            *

الفصل الرابع عشر: الثمن
لم ينطق (قدرى) كلمة واحدة، منذ أعادوه إلى تلك الحجرة، التى يحتجزونه فيها مع (منى)، واعادوه قيدهما ظهراً إلى ظهر، فى أبعد ركن فيها ...
وصمتت (منى) لحظات، قبل ان تسأله فى عصبية :
    - ماذا فعلت ؟!
أجابها فى هدوء استفزها:
    - وضعت توقيع (أدهم) على العقود .
صدمها الجواب، فهتفت فى حدة :
    - وكيف تفعل هذا ؟!
أجابها بنفس الهدوء المستفز :
    - لم يكن أمامى سوى هذا .
صاحت غاضبة:
    - كان الموت أفضل.
سألها :
    - موتى أم موتك ؟!
صمتت لحظة، ثم سألته :
    - لقد هددوا بقتلى ... أليس كذلك ؟!
انتبهت فجأة إلى أن يداه تتحركان خلفها، وهو يجيب، مع رنة ألم :
    - الأمرمؤلم بحق، ولكننى أحتاج إلى التركيز.
أدركت (منى) أن (قدرى) يقوم بعمل ما، لا يريد أن تكشفه كاميرات المراقبة، التى ترصد حركتهما طوال الوقت، فغمغمت :
المهم ان يكون ناجحاً .
قال :
هل يمكنك أن تصمتى ؟!... هذا يشتت انتباهى .
لاذت بالصمت تماماً، وشعرت مع أنفاسه المتلاحقة، بالجهد الذى يبذله، قبل ان تصدر منه تنهيدة ارتياح، ويتمتم فى خفوت :
    - ألم أقل لك: إن (أدهم) سينقذنا ؟!
قالها، ثم شعرت بيديه حرتين، تتعاملان مع قيودها على نحو ما، ثم لم تلبث أن شعرت بتحررها من قيودها، فتألقت عيناها، وبذلت جهداً للسيطرة على انفعالها، وهى تقول فى خفوت :
    - إنها موهبة جديدة، لم اكن اعلم شيئاً عنها .
قال فى هدوء:
    - الأصابع المدرًَّبة، تستطيع أن تفعل الكثير .
ثم أضاف، بعد لحظة من الصمت :
    - ويمكنك القول: إنها هواية قديمة.
هنا فقط، أدركت ما الذى كان يعنيه، بقوله: إن (أدهم) سينقذهما ...
إنه دبوسها الذهبى، الذى يحمل الحرف الاوًَّل من اسم (أدهم) ...
لقد انتزعه من عنق الرجل، إلا أنه لم يعده إليها قط ...
فقط مسحه فى عناية، ثم وضعه تحت لسانه ...
الآن فقط فهمت ...
لقد تحرًَّرا من قيودهما، ولكنهما مازالا تحت مراقبة دقيقة ومستمرة، داخل حجرة مغلقة فى إحكام...
كل ما عليها إذن، هو ان تنتظر الفرصة المناسبة للهجوم ...
وللمفاجأة ...
فربما يصنع هذا فارقاً ...
ربما ...
*            *            *
" هناك ممر سرى، إلى مطبخ المزرعة .."...
قالها البارون بمنتهى الغضب، وهو يتحًَّرك فى حجرة المكتب كالمسعور، ثم التفت إلى (ادهم) فى حدة، صائحاً:
    - هذا صحيح يا سنيور (صاندو) ... أليس كذلك ؟!
هزًَّ (أدهم) كتفيه، وهو يقول :
    - ربما .
اقترب منه البارون فى حدة، وصاح فى وجهه :
    - رجالك لم يغادروا المزرعة ... لقد بحثنا عنهم فى كل مكان، فلم نجد سوى الخيول .. لقد عادوا يختبئون فى مكان ما هنا ... وهذا المكان يمتد منه ممر سرى، إلى مدخل خفى فى المطبخ .
ابتسم (أدهم) فى سخرية، وهو يقول :
    - يا للعبقرية !
استفزًَّت سخريته البارون أكثر، فصاح :
    - سنقلب المطبخ رأساً على عقب أيها المصرى، وسنعثر على ذلك الممر السرى، حتى لو هدمنا الجدران، ونزعنا الأرضيات، وحتى لو نسفت المكان كله ... وسيدفع رجالك الثمن .
عاد (أدهم) يهزًَّ كتفيه فى لا مبالاة، وهو يقول :
    - من يدرى؟!...ربما كان شيطانك (ألنزو) هو من يدفع الثمن الآن .
صرخ فى غضب :
    - فليذهب (ألنزو) إلى الجحيم ... المهم أن أنتصر فى النهاية.
تطًَّلع (أدهم) إلى عينيه مباشرة، وهو يقول فى تحد :
    - تذكًَّر كلماتك أيها الوغد ... المباراة لم تنته بعد .
نظر إليه البارون فى مقت شديد، ثم اندفع إلى مكتبه، وفتح علبة حمراء اللون، التقط منها محقناً، عاد به إلى (أدهم)، وهو يقول فى غضب :
    - بل انتهت يا سيًَّد (أدهم) .
قاله، وغرس إبرة فى عنق (أدهم)؛ ليضخ فى عروقه عقاراً ما، وهو يقول :
    - هذا العقار سيضعك فى حالة نصف الوعى ... ستسمع وترى كل شئ، ولكن عقلك لن يكون بالصفاء الكافى للمقاومة ... ولقد أعددت مسرح العمليات؛ لتبقى فى أرضك إلى الأبد، ولكن المؤسف أنه لن يكون هناك شاهد لقبرك، ولن يستطيع محبوك وضع الزهور عليه.
بدأ (أدهم) يشعر بتأثير العقار بالفعل، فى حين نهض البارون، وقال لرجاله، وهو مستمر فى غضبه :
    - اهدموا المطبخ تماماً، واعثروا على ذلك الممر السرى بأى ثمن، أما سنيور (صاندو)، فكمموا فمه، حتى لا أسمع المزيد من كلماته المستفزة، وقيدوه بإحكام فى سيارتى الخاصة .
وعاد ببصره إلى (أدهم)، وهو يواصل فى مقت شديد :
    - سيشاهد العالم كله، كيف ستنتهى حياة (رجل المستحيل) .
قالها، وتألقت عيناه فى وحشية أكثر ...
وأكثر ...
وأكثر ...
*            *            *
لم يدر (ألنزو) ماذا حدث بالضبط ؟!...
كان واثقاً من انه يقف وحده، داخل مطبخ المزرعة، عندما سمع صوتاً من خلفه، من ناحية الجدار الجانبى، وقبل أن يلتفت إلى مصدره، هوت ضربة عنيفة على رأسه، وأخرى على يده الممسكة بالمدفع الأليكترونى ...
سقط مدفعه أرضاً، وشعر بعدد من الرجال يحيط به، وحاول أن يقاوم فى شدة، ولكن ضربات مؤلمة، على الاجزاء المحترقة من جسده، جعلت مقاومته تنهار سريعاً، قبل أن يشعر بأياد عدة تجذبه نحو فتحة عجيبة فى الجدار، لم يكن لها وجود من قبل، ثم راحت تلك الأيادى تجره جراً، على أرضية ممر طويل، غير مبالية بصرخاته، حتى بلغ قاعة واسعة مضاءة، احتشد فيها كل من تبقى من عمال وموظفى المزرعة ...
وكانت العيون كلها تحدًَّق فيه، فى مقت شديد، وبعض الأيادى تكًَّبل قدميه ومعصميه، ثم سمع صوت (بدرو)، مدير المزرعة، وهو يقول :
    - أرقت دماء العديدين يا سنيور ... ومن العدالة أن تدفع الثمن .
حدًَّق فيه (ألنزو) فى رعب، وهو يغمغم مرتجفاً :
    - لقد كان عملاً يا رجل ... لم تكن هناك ضغائن شخصية .
رأى المقت فى العيون يتضاعف، وقالت إحدى نساء المزرعة :
    - وهذه عدالة السماء يا هذا ...ليست ضغائن شخصية .
اتسعت عيناه فى ارتياع، عندما وقع بصره على حبل المشنقة، المعلق فى منتصف القاعة، وصرخ:
لم يكن أمراً شخصياً .
كان هذا آخر ما نطقه، قبل أن يضع الرجال كمامة ملوًَّثة بالدم على فمه، و(بدرو) يقول :
    - الدماء التى تتذوقها الآن، هى دماء ضحاياك يا سنيور ... وكلها دماء بريئة، لم ترتكب ما يستحق إراقتها، وكلها أيضاً تطالب بالقصاص .
هزًَّ رأسه فى قوة، وصدرت عنه همهمات مذعورة، والرجال يدفعونه امامهم، إلى حيث المشنقة، التى أحاطوا عنقه بأنشوطتها، و(بدرو) يقول فى خشوع :
    - وفقاً للقانون، صدر عليك حكم بالإعدام، جزاء ما اقترفت يا سنيور، وسيدفن جسدك بأسلوب لائق، ولكن دون تحديد موقعه، وليكمل الخالق العظيم عقابك فى جحيمه .
قاوم (ألنزو) بشدة ...
وقاوم ...
وقاوم ...
ولكن الرجال تعاونوا مع بعض النساء على جذب الحبل ...
وارتفع جسد (ألنزو)، واختنق بشدة ...
ولكنه ظل يقاوم ..
كانت العيون كلها تتابع مقاومته فى صمت، ودون أدنى تعاطف، وقد جحظت عيناه عن آخرهكا، مع الألم والرعب ...
ثم بدأت مقاومته تضعف ...
وتضعف ...
وفى النهاية، تدًَّلت جثته من حبل المشنقة هامدة ...
وفى خشوع، راح الجميع يتلون صلاة واحدة ...
لقد دفع السفاح الثمن ...
وبمنتهى العدالة ...
*            *            *
تأًَّلقت عينا البارون فى ظفر، عندما انتهى رجاله من إخفاء ذلك التابوت، الذى يحوى (رجل المستحيل)، تحت رمال الصحراء، والتفت إلى أحد مصوًَّرى الحدث، متسائلاً فى شغف :
    - هل التقطت المشهد كله ؟!
أشار الرجل بإبهامه، قائلاً :
    - لدينا فيلم رائع يا سيًَّدى البارون .
انتفخت أوداجه، وهو يقول:
    - عظيم ... اصنع منه عدد كاف من النسخ، وارسل أحدها إلى عزيزتى (سونيا)، وآخر إلى دونا (كارولينا)، ونسخة إلى كل جهاز مخابرات معروف، ولا تنس نسخة خاصة، بغلاف أحمر، إلى المخابرات المصرية .
أشار الرجل بإبهامه مرة أخرى، وهو يبتسم، قائلاً :
    - فوراً يا سيًَّدى البارون .
التقط البارون نفساً عميقاً، من هواء الصحراء، وقال :
والآن، دعونا لا نضيع لحظة أخرى ..
والتقط هاتفه؛ ليجرى اتصاله بمحاميه (توبلكس)، قائلاً:
           - سننطلق فوراً إلى هيئة التوثيق، لتسجيل عقود بيع المزرعة، وسيأتى (رودريك) معى؛ ليؤكًَّد الصفقة، باعتباره سنيور (أميجو صاندو) ... انتظرنا هناك.
برز شبيه (أدهم) فى هذه اللحظة، وهو يقول :
    - أوامرك يا سنيور .
تطلع إليه البارون لحظة، سرت خلالها لمحة من الشك فى نفسه، مع ذلك الشبه الهائل، بين (رودريك) و(أدهم)، ثم أشار إليه، قائلاً :
    - أكًَّد هويتك أوًَّلاً يا هذا .
مدًَّ (رودريك) يده إلى الأمام، وأسرع أحد الرجال يحصل على بصماته، عبر جهاز أليكترونى خاص، ثم على عينة من دمه، وضعها فى جهاز آخر، وأدار الجهازين، فظهرت النتيجة عليهما معاً، تؤكًَّد أن البصمة والعينة الجينية للشبيه، وليست لبطلنا، فتنهًَّد البارون فى ارتياح، وقال :
    - هيا بنا .
توًَّجه مع الشبيه إلى هليوكوبتر تنتظرهما، واستقلاها، وهو يشعر بفخر ما بعده فخر ...
فلو أن (أدهم صبرى) قد حاز بإنجازاته وتفوقه، لقب (رجل المستحيل)، فقد حاز هو بقوته وحنكته لقباً أكثر قوة ...
لقب الرجل، الذى قضى أخيراً، على (رجل المستحيل) ...
وهذا فى رأيه يدعو للفخر ...
كل الفخر ...
*            *            *
أخيراً، فتح أحدهم باب حجرة (منى) و(قدرى)، وهو يقول فى صرامة، مصوًَّباً فوهة مدفعه إلى رأس (منى) :
    - انتهت مهلة الساعات الثلاث يا رجل، وأوامر البارون صريحة ... إما موافقتك، أو رأس زميلتك .
بدا (قدرى) منهكاً للغاية، وهو يهمس بكلمات، لم يتبينها الرجل جيداً، فمال نحوهما، وهو يقول فى صرامة قاسية :
    - ماذا تقول أيها الدب ؟!
فجأة، انقضت (منى) عليه بلكمة كالقنبلة، وهى تقول :
    - يقول إنك غبى .
وقبل أن يستعيد الرجل توازنه، مع المفاجأة، انتزعت منه مدفعه، وهوت به على رأسه، مكملة :
    - ومن سوء الادب أن تصفه بالدب .
كان الاثنان يدركان أن شاشات المراقبة ستنقل الموقف كله، ولهذا هتف بها (قدرى) فى سرعة، دون ان يحاول النهوض :
    - ناولينى هذا المدفع .
القت إليه المدفع الأليكترونى، فالتقطه، واستخدم ذلك الدبوس الذهبى، الذى يحمل الحرف الأوًَّل من اسم (أدهم)، ليضغط على جزء صغير من جهاز التعرًَّف على البصمة فيه، ثم دفعه إليها، قائلاً :
    - الآن سيعمل .
وحاول النهوض، وهو يكمل :
    - من حسن الحظ أننى درست الجهاز، عندما كنا فى السيارة .
كان الرجال يقتحمون المكان فى هذه اللحظة، عندما ضغطت (منى) زناد المدفع ...
وتجلًَّت عبقرية (قدرى) مرة أخرى ...
لقد انطلقت رصاصات المدفع، تحصدهم حصداً، مع المفاجأة، التى لم يتوقعها أحدهم ...
ومع دوى الرصاصات، اندفع عدد آخر من الرجال نحو المكان، وهتف (فرناندو)، وهو يكمل هدم جدران المطبخ مع رجاله :
    - ما الذى يحدث هنا ؟!
ومع كلماته، دوى الانفجار فجأة ...
وكان انفجاراً قوياً ...
للغاية ...
*            *            *
شعر البارون بثقة شديدة، وهو يدلف إلى جهة التوثيق المكسيكية، بصحبة محاميه (توبلكس)، و(رودريك)، شبيه (أدهم)، حاملاً عقود بيع المزرعة ...
وفى حرارة، استقبلهما مدير المكان شخصياً، وهو يقول مرحًَّباً :
    - يالها من مفاجأة سارة يا سنيور (صاندو) ... مضت فترة طويلة، منذ أن تشرًَّفت بلقائك فى المرة الأخيرة .
قال (رودريك)، مستخدماً ذلك الجهاز الصوتى الخاص، المخفى فى رباط عنقه، والذى يحوًَّل صوته إلى صوت مطابق لصوت (أدهم) الحقيقى :
أنا هنا لتوثيق عقود بيع المزرعة ... البارون ابتاعها بثمن جيًَّد .
راجع مدير المكان العقود، وهو يقول :
    - أنت تعلم بالطبع أنه ستكون هناك مصروفات كبيرة، على تسجيل عملية بيع بهذه القيمة يا سنيور .
أجابه (توبلكس)، فى شئ من الصرامة :
    - سندفع المطلوب فوراً، بشيك مسحوب على بنك (نيويورك) .
بدا المدير متردًَّداً، وهو يقول فى حذر :
    - سيقارب هذا المليون بيزو* يا سنيور.
قال البارون فى صرامة :
    - يمكننى أن أدفعها نقداً لو أردت .
هزًَّ المدير رأسه نفياً، وقال :
    - كًَّلا يا سنيور ... القانون يمنع قبول النقد بهذه القيمة ...سنقبل الشيك، لو أكًَّد سنيور (صاندو) عملية الشراء .
بدت الحيرة على وجه (رودريك)، فى حين قال البارون فى عصبية :
ها هو ذا امامك، يقر بصحة العقود .
وقال (توبلكس) فى عصبية:
          -  الأمور كلها قانونية يارجل.
مال المدير إلى الامام، وهو ينظر إلى (رودريك) مباشرة، قائلاً :
    - ولكنه لم يؤكًَّد بعد عملية الشراء .
قال (رودريك) فى ارتباك :
    - ولكننى أقر بنفسى، بصحة العقود .
اعتدل المدير، قائلاً فى صرامة :
التعليمات صريحة يا سنيور (صاندو) ... لابد من تأكيد عملية الشراء .
بدا (توبلكس) شديد العصبية، وهو يقول:
           -  لماذا تتعمّد إضاعة الوقت ياهذا ؟!..
وهتف البارون فى حدة :
    - ما الذى يعنيه هذا العبث الأحمق ؟!
صدمه صوت، يقول فى سخرية :
    - يعنى أن المدير لم يسمع الكود السرى المتفق عليه، أيها البارون .
استدار البارون مع المدير و (رودريك) فى سرعة، إلى مصدر الصوت، واتسعت عينا (رودريك) والمدير فى دهشة، فى حين صرخ البارون فى ذهول :
    - مستحيل !...
فصاحب الصوت، كان آخر شخص يمكن أن يتواجد، فى هذا المكان ...
كان (أدهم) ... 
(أدهم صبرى) ...
الحقيقى .
*            *            *

الفصل الأخير : الختام
على الرغم من الأوامر، التى تلقاها من (القاهرة)، لم يستطع السفير المصرى فى (المكسيك)، استيعاب سر وجود هذا الفريق، من رجال العمليات الخاصة المصريين، والذين يحملون جميعهم جوازات سفر ديبلوماسية حمراء، تؤكًَّد أنهم جميعاً فى مهمة مدنية ديبلوماسية خاصة ...
أما الملحق العسكرى للسفارة، فكان من الواضح أن لديه تعليمات سرية خاصة، جعلته ينشغل، من قبل حتى أن يصل الرجال، فى إعداد وتجهيز بعض الامرو، التى لم يعلم عنها السفير نفسه، على الرغم من مخالفة هذا للقواعد الديبلوماسية ...
وفور وصول الفريق، اجتمع به الملحق العسكرى، وهو رجل مخابرات سابق، لمدة تزيد عن الساعة، ثم خرج معهم فى سيارة ديبلوماسية، دون ان يعلم أى من العاملين بالسفارة هدفهم الحقيقى ...
وبعدها عاد وحده، مع كشف بإنفاق مبلغ كبير، من المصروفات السرية للسفارة، اعتمدته (القاهرة) فوراً، على عكس المتبع، فى مثل هذه الحالات ...
وعلى الرغم من ان كل هذا لم يرق للسفير، إلا أنه لم يعترض، مؤمناً بأن الامر يخص حتماً الامن القومى المصرى، على نحو أو آخر ....
وأنه بالغ السرية ...
إلى أقصى حد ...
ولم يعرف لماذا جاء الرجال ؟!...
ولا أين ذهبوا ؟!...
ولم يحاول أن يعرف ...
أبداً ...
*            *            *
لم يكد (فرناندو) يتساءل عما يحدث، مع سماعه دوى الرصاصات، انفجر الجدار الجانبى للمطبخ، وأطاح به وبرجاله فى عنف ...
وقبل أن ينهض من تبقى منهم، اندفع عمال وموظفى المزرعة، عبر الفجوة الناشئة، وهم يطلقون صرخات قوية، وانهالوا عليهم بالضربات فى عنف، ثم استولوا على كل أسلحتهم، على الرغم من عدم فاعليتها معهم...
ومع دوى الانفجار نفسه، ارتبك باقى رجال البارون، مما منح (منى) فرصة ذهبية؛ لتحصد بعضهم، وهى تنطلق عبر الممر، فى نفس الوقت الذى نهض فيه (قدرى)، مغمغماً فى توتر :
    - رباه!... هل اندلعت الحرب ؟!
كانت المفاجأة مذهلة، بالنسبة لمن تبقى من رجال البارون، وكان مشهد المنقضين عليهم مخيفاً، حتى أنهم تراجعوا، على الرغم من أسلحتهم، وأطلقوا رصاصاتهم على عامل أو عاملين، فأجابتهم رصاصات (منى) من أعلى، ودفعتهم إلى الفرار، خارج مبنى المزرعة، يستنجدون بالباقين فى الخارج ...
وعندما هبطت (منى) إلى الطابق السفلى، استقبلها العمال بصيحة فرح، وهتف (بدرو) فى سعادة :
    - إنها خطة سنيور (صاندو) يا سنيوريتا ... لقد أخبرنا ما الذى ينبغى أن نفعله؛ لنحرًَّر مزرعتنا .
سألته فى دهشة بالإسبانية :
    - من أين أتيتم ؟!... وأين كنتم ؟!
هتفت بها إمرأة فى انفعال :
    - السنيور أرشدنا إلى مخبأ سرى للطوارئ، أسفل اسطبلات الخيل، وإلى المرر السرى، المتصل بالمطبخ، ووضع لنا الخطة كلها، ونحن نفذناها كما اخبرنا بالضبط .
ظهر (قدرى) عند قمة سلم الدور الثانى، وهو يهتف بالعربية :
    - هل انتصرنا ؟!
أجابته (منى) فى انفعال :
    - ليس بعد ... لقد فرًَّوا إلى الخارج فحسب، بعد أن هاجمهم رجال المزرعة، عقب نسف المطبخ .
هتف فى هلع :
    - المطبخ ؟!... ولماذا المطبخ بالتحديد ؟!
أسرعت (منى) إليه، وهى تقول :
    - دعك من هذا الآن... لقد سيطرنا مؤقتاً على مبنى المزرعة، ولكنهم سيعاودون الهجوم بعد قليل، عندما يدركون أننا لا نملك أسلحة لمقاومتهم، وعلينا أن نفعل شيئاً بهذا الشأن .
عقد حاجبيه، وهو يقول، وكأنه يحدًَّث نفسه :
    - ما قرأته عن تلك النظم العسكرية الأليكترونية، يقول : إن النظام كله، لابد وان يرتبط بوحدة تحكًَّم مركزية .
أجابته، وهى تبلغ الطابق الثانى :
    - ستكون هنا حتماً، تحت سمع وبصر البارون .
سألها فى قلق:
    - بالمناسبة ... أين هو ؟!... وأين (أدهم)؟!
أجابته فى حزم :
    - اترك لى إجابة السؤالين، وابحث أنت عن وحدة التحكًَّم.
ثم توقفت، ووضعت يدها على كتفه، مضيفة :
    - (قدرى) ... إننا بحاجة إلى عبقريتك الآن...أنت املنا الوحيد.
واختطلت المشاعر فى نفس (قدرى)...
وامتزج فخره بسعادته وتوتره وخوفه ...
أما هى، فعادت تهبط فى درجات السلم، وهى تلقى على نفسها السؤال المفزع ...
أين (أدهم) الآن ؟!...
أين ؟!...
*            *            *
" مستحيل أن تكون هنا!!....لقد دفنتك بنفسى!!.."..
التفت (أدهم) فى سخرية إلى المدير، وقال :
    - أظنه اعترف أمامك بجريمة شروع فى القتل أيها المدير .
نقل المدير بصره فى عصبية، بين البارون و(ادهم) و(توبليكس) و(رودريك)، قبل أن يهتف :
    - من منكما سنيور (صاندو) الحقيقى .
مال (أدهم) نحوه، وهو يقول :    
- سله عن الكود السرى يا رجل .
ارتبك (رودريك) بشدة، وانكمش (توبليكس) فى ارتياع، فى حين انعقد حاجبى البارون، وهو يقول فى غضب :
    - لن اخسر معركتى هنا .
مع قوله الغاضب، اندفع الرجال المصاحبين له إلى المكان وهم يرفعون مدافعهم الأليكترونية، وصرخ فيهم البارون بكل انفعاله وشراسته :
    - اقتلوا الجميع .
أدهشه أن ظل (أدهم) هادئاً مبتسماً، والرجال يضغطون أزندة مدافعهم، و ...
ولم تنطلق رصاصاة واحدة ...
واتسعت عينا البارون، مع عيون رجاله، فى حين قال (أدهم) فى هدوء :
    - هذا احد عيوب التكنولوجيا يا رجل ... أنه يمكن مواجهتها بتكنولوجيا مضادة ... لو ان رجالك يحملون مدافع عادية، لانطلقت رصاصاتها الآن تحصد الجميع بلا رحمة، ولكن جهاز شوشرة أليكترونى بسيط، يمكنه أن يوقف عملها تماماً، مع كل إشارات الهواتف المحمولة أيضاً، ويحوًَّلها إلى خردة، مع ضغطة زر واحدة .
تبادل الرجال نظرة مذعورة، مع بعضهم البعض، ثم اندفعوا مطلقين صرخات قتالية مخيفة، نحو (أدهم)، وهم يلوحون بمدافعهم ...
وما حدث فى اللحظات التالية، لا يحتاج أى وصف مكررًَّ ....
كل ما يمكن قوله، هو أنه بعد أقل من ثانيتين، كان الرجال الثلاثة مكومين أرضاً، و(أدهم) ينفض كفيه، قائلاً :
    - أظنهما صارا جريمتى شروع فى القتل أيها المأفون، والأخيرة بها عدد لا بأس به من الشهود .
احتقن وجه البارون فى شدة، و(أدهم) يضيف، فى سخرية واثقة :
أظن أنها الجولة الاخيرة من المباراة، يا بارون الحمقى .
صرخ (توبليكس):
         -  هو أصدر الأمر، لا أنا.
تفجًَّر الغضب فى ملامح البارون، وسحب بسرة مسدساً عادياً من حزامه، ألصقه برأس المدير، وهو يصرخ :
    - سانسف رأس هذا الرجل، لو لم تفسح لى الطريق .
قال (أدهم) فى صرامة:
    - سيضيف هذا إليك جريمة ثالثة .
صرخ البارون بكل قوته :
    - (رودريك) .
وهنا سحب شبيه (أدهم) مسدساً عادياً فى سرعة، وأطلقه ...
نحو (أدهم) مباشرة ...
*            *            *
هتف أحد من تبقى، من رجال البارون، برفاقه فى عصبية :
    - إنهم لا يمتلكون سلاحاً، ونحن لدينا أسلحتنا، وخبراتنا القتالية ... سنشن هجوماً من كل الجوانب، وسنسحقهم سحقاً .
سأله أحدهم فى قلق :
    - ألا ينبغى أن نحصل على موافقة البارون أوًَّلاً ؟!
هتف به الرجل، وهو يندفع نحو منزل المزرعة :
    -  لقد حاولت، ولكن هاتفه لايعمل، ثم أنه لا وقت لهذا ... هيا يا رجل .
اتخذ الرجال بسرعة وحرفية، تشكيلاً قتالياً متقناً؛ لحصار منزل المزرعة من كل اتجاه، قبل ان يصرخ كبيرهم :
    - هيا .
شن الرجال جميعهم هجوماً واحداً، من كل الاتجاهات، وهم يطلقون نيران مدافعهم، و ...
وفجأة، ظهرت تلك الهليوكوبتر، فى سماء المزرعة ...
هليوكوبتر قوية، ليست حمراء اللون، كطائرات البارون ....
ودون ان تهبط إلى الارض، قفز منها رجال العمليات الخاصة المصريون ...
وقبل حتى ان تطأ أقدامهم الأرض، كانت رصاصاتهم تنطلق ...
وأصيب رجال البارون بالفزع ...
ومع سقوط بعضهم، حاول الباقون رد النيران، ولكن مدافعهم الاليكترونية توقفت عن العمل فجأة، عندما نجح (قدرى) فى إيقاف عمل وحدة التحكًَّم المركزية، فتضاعف فزعهم، وهرع بعضهم نحو طائرات الهليوكوبتر الحمراء، التى تحمل شعار البارون، إلا أن مقاتلاً تبقى داخل الهليوكوبتر، أمطرها بصواريخ قوية، نسفت الطائرات الثلاث نسفاً ...
وهنا، لم يعد أمام من تبقى من رجال البارون، سوى إلقاء أسلحتهم أرضاً، ورفع أيديهم فوق رءوسهم مستسلمين، وكبيرهم يصرخ مرتجفاً:
         - لا تطلقوا النار .... إننا نستسلم.
وداخل منزل المزرعة، هتفت (منى) فى سعادة :
    - لماذا تاخرتم هكذا يا رفاق ؟!
هتف بها (قدرى)، وهو يهبط من الطابق الثانى :
    - أكنت تعلمين أنهم قادمون ؟!
أجابته فى سعادة :
    - أخبرتك أنه لم يكن هناك خطأ فى قدومنا ... لقد كانت خطة محكمة، وضعها (أدهم)، بالتعاون مع مخابراتنا، عندما لاحت فرصة للقضاء على منظمة البارون الاحمر كلها .
قال فى غضب :
    - كنت تعلمين، ولم تخبرينى .
قالت فى شبه اعتذار :
    - تركتك تتصرًَّف بتلقائيتك يا عزيزى (قدرى) .
ثم ابتسمت فى امتنان، وهى تضيف :
    - ولقد كنت رائعاً هذه المرة .
كرًَّر فى غضب :
    - كنت تعلمين ولم تخبرينى .
دخل قائد فريق القوات الخاصة المصرى المكان، فى هذه اللحظة، وادى التحية العسكرية أمام (منى)وهو يقول :
    - تمت السيطرة على الموقف يا سيادة المقدًَّم .
ثم سأل فى اهتمام :
    - هل الجميع بخير هنا ؟!
أجابته فى لهفة :
    - معظمهم ... ولكن اخبرنى : ماذا عن (أدهم) ؟!.
أجابها بلهجة عسكرية صرفة :
    - سيادة العميد بخير ... جهاز الاتصال فى قميصه، حدًَّد لنا موقعه، وعلى الرغم من اطنان الرمال، التى كانت فوقه ....
ارتجف صوتها، وهى تقاطعه  فزعة :
    - أطنان الرمال ؟!
ابتسم ابتسامة رصينة، وهو يقول:
    - إنه بخير ... اطمئنى ... لقد حملته هليوكوبتر قوية إلى (مكسيكو سيتى)* فور إطلاق سراحه .
وعلى الرغم من تأكيده، لم يطمئن قلبها .
لم يطمئن أبداً ...
*            *            *
من الأمور التى لا تكفى القرأة عنها لإدراكها، سرعة الاستجابة المدهشة، التى يتمتع بها (أدهم)، والتى تفوق كل تصوًَّرات أى إنسان عادى ...
ففى نفس اللحظة، التى أطلق فيها (رودريك) رصاصة نحوه، مال (أدهم) جانباً، فى سرعة مذهلة، واختطف مطفأة حريق، ألقاها بكل قوته نحو البارون، وهو ينطلق بنفس السرعة إلى الامام ...
وعندما ارتطمت مطفأة الحريق بيد البارون، واطاحت بمسدسه، كان ادهم يثب فوق مكتب المدير، ثم يعتمد بقدمه على رأس البارون، ويركل مسدس شبيهه بكل قوته، قبل أن ينقض عليه، ويكيل له لكمة كالقنبلة، قائلاً :
    - ليس فى كل مرة .
ثم ثانية، مضيفاً :
    - يجد الإنسان الفرصة .
ومع الثالثة، ختم عبارته بقوله :
    - ليلكم نفسه .
سقط (رودريك) ارضاً فاقد الوعى، فى حين وثب البارون، محاولاً استعادة مسدسه، ولكن (ادهم) ركل وجهه بقدمه، قبل ان يلتقط المسدس، قائلاً فى سخرية :
    - أتبحث عن هذا ؟!
واصل (توبليكس) صراخه، على نحو هستيرى، واحتقن وجه البارون، واتسعت عيناه عن آخرهما، وهو يحدًَّق ذاهلاً فى (أدهم)، فى حين أسرع رجال أمن المكان يلقون القبض عليه، وعلى (توبليكس) الذى انهار تماماً، ويكبلون رجاله فاقدى الوعى، فى حين غمغم البارون فى مرارة :
    - ولكن كيف ؟!... لا يمكنك الفرار من ذلك القبر، الذى وضعتك فيه ؟!
أعاد (ادهم) مطفاة الحريق إلى موضعها، وهو يقول :
    - لقد كنت أشبه بالتلميذ الخائب، طوال الوقت يا بارون الأغبياء... قرأت ملفى، وحفظته جيداً... ولاحظت أننى أعمل دوماً منفرداً، فقررًَّت، ومنذ البداية، ان اخالف هذه القاعدة، واثبت لك أننى اعمل لحساب جهاز مخابرات قوى، يمكنه أن يذيقك أمرًَّ هزيمة فى حياتك .
بدا البارون شديد الانفعال، وهو يقول :
    - ولكن كيف عثروا عليك؟!... لم تكن هناك علامة واحدة، يمكن أن ترشدهم إليك .
رفع (أدهم) يده، وهو يشير إلى كم قميصه، قائلاً بابتسامة ظافرة :
    - أنت تعشق التكنولوجيا، وهذه لعبة تكنولوجية جديدة، اكثر تطوراً مما تملكه... جهاز اتصال صغير، فائق القوة، أرشدهم إلى موضعى فى سهولة .
قال البارون فى حدة :
    - مستحيل !... لو انه يعمل، لكشفت أجهزتى أمره .
هزًَّ (أدهم) كتفيه، وقال :
    - ولهذا لم أدفعه للعمل، طوال تواجدى فى المزرعة... فقط عندما انتقلنا إلى الصحراء، وعلى الرغم من حالة نصف الوعى، التى وضعتنى فيها، أمكننى ضغط زر التشغيل .
هزًَّ البارون رأسه فى شدة، هاتفاً :
    - مستحيل !... لن يعمل أبداً، تحت أطنان الرمال .
أجابه (أدهم)، وهو يميل نحوه قليلاً :
    - الرمال مكًَّونة من مادة السليكون، وهى موصل جيد للإشارة، ومنها تصنع الموصلات الاليكترونية الفائقة *
قال البارون فى حدة:
    - مازال هذا مستحيل علمياً .
هزًَّ (أدهم) كتفيه، قائلاً :
    - ربما ... ولكن الرجال سمعوا كل حرف نطقت به، مع بدء عمل الجهاز، ثم تتبعوا إشارة جهاز الاتصال الدقيق، حتى نقطة بعينها، وبعدها توقًَّفت الإشارة، وعندما اتجهوا بالهليوكوبتر، نحو أخر نقطة، توقفت عندها الإشارة، كان من السهل رؤية ما تركته أجهزتك، وكاميرات التصوير، من آثار على الرمال وعندئذ، تولى الرجال الامر، حتى أنهم حفروا الرمال بأيديهم؛ ليخرجونى من قبرك اللعين .
بدت الهزيمة واضحة، على ملامح البارون المنهار، و(أدهم) يضيف :
    - لو أنك أجدت قرأة ملفى جيداً؛ لأدركت أنك قد أرتكبت الخطأ نفسه، الذى ارتكبه كل خصومى من قبل، والذى راهنت أنا على أن ميولك الاستعراضية، وغرورك المتغطرس، سيمنعانك من فعله .
ثم مال أكثر، مردفاً فى قوة :
    - لقد أردت نهاية درامية، ولم تقتلنى فوراً، عندما ظفرت بى، وسنحت لك الفرصة لهذا ...
غمغم البارون، محاولاً إنقاذ ما تبقى من كرامته :
    - سأذكر هذا فى المرة القادمة .
اعتدل (أدهم)، قائلاً فى سخرية :
الجرائم التى ارتكبتها، ستضمن لك عقدين من السجن هنا، فى سجون (المكسيك) .. 
ثم أضاف بسخرية أكثر، وهو ينقل بصره، بين البارون و(توبليكس):
           - وأنا واثق أنها لن تروق لكما أبداً .
اتسعت عينا (توبليكس) فى رعب، وشحب وجه البارون فى شدة، وهو يستعيد كل ما سمعه، عن تردى أحوال السجون المكسيكية، فى حين ألتقط (أدهم) العقود، من امام مدير المكتب، وهو يقول بابتسامة :
    - اسمح لى .
تنهًَّد المدير، وألقى نظرة مقت على البارون، قبل أن يقول :    
    - بكل السرور والاحترام، يا سنيور (صاندو) .
تطلًَّع (أدهم) إلى عينى البارون مباشرة، بنظرة ظافرة، وهو يقول :
    - الآن، انتهت المباراة .
ومزًَّق العقود ....
*            *            *
" أين ذهب رجالنا ؟!..."...
ألقت (منى) السؤال على (أدهم)، وهما يتفقدان خسائر المزرعة، فأجابها هذا الأخير فى هدوء :
    - عادوا إلى السفارة، وستقلهم طائرة مدنية إلى (القاهرة) مساء اليوم، فأنت تعلمين أن مهمتهم غير رسمية، من الناحية الديبلوماسية .
قالت فى حماس :
    - لقد كانوا رائعين .
ابتسم فى حماس :
    - هم دوماً كذلك .
اقترب منهما (بدرو) فى هذه اللحظة، وهو يقول بابتسامة عريضة :
    - جميع الخيول عادت يا سنيور، وكل الخسائر يمكن إصلاحها .... المهم أننا قد استعدنا المزرعة .
غمغمت (منى) فى أسف :
    - ولكنكم فقدتم عدداً من الرجال .
أجابها فى احترام :
الحرية لها ثمن يا سنيوريتا .
قال (أدهم) فى حزم :
    - أنت على حق .
ثم وضع يده على كتفه، مضيفاً :
    - ولقد عدلت نهائياً، عن فكرة بيع المزرعة .
تهلًَّلت أسارير (بدرو)، وهو يهتف :
    - حقاً يا سنيور ؟!
أجابه (أدهم) :
    - حقاً يا (بدرو) ... ولكنها لم تعد ملكى وحدى ... هناك شركاء آخرون، يمتلكون نصفها .
بدا الاحباط على وجهه، وهو يغمغم :
    - شركاء آخرون يا سنيور ؟!...
أومأ (أدهم) برأسه إيجاباً، وابتسم، قائلاً :
    - نعم يا (بدرو) ... أنتم .
التفتت (منى) إلى (أدهم) فى انبهار شديد، فى حين اتسعت عينا (بدرو)، وهو يقول :
    - رباه!....نحن يا سنيور .... ولكننا كلنا لا نمتلك حتى ربع ثمنها !!...
مال (أدهم) نحوه، وقال فى حزم :
لقد دفعتم ثمنها بالفعل .
ثم اعتدل مضيفاً:
          -  بدمائكم.
ارتفع حاجبا (بدرو)، وسالت الدموع من عينيه، دون أن يشعر، وهو يغمغم :
    - باركك الله يا سنيور ... باركك الله .
اعتدل (أدهم) ، قائلاً:
    - هيا ... ضع خطة لإصلاح مزرعتنا .
أجهش (بدرو) بالبكاء، وهو يتراجع ، مكررًَّاً.
    - باركك الله يا سنيور .
ودًَّت (منى)بشدة لو تحتضن (أدهم) فى هذه اللحظة، وهى تقول فى حب وانبهار:
    - أنت عظيم .
تجاوز مديحها، وهو يمسك يدها فى حنان، قائلاً:
    - تعالى نلقى نظرة على (قدرى) .
شعرت بدفء يده، واختلج قلبها فى صدرها، وهى تسير إلى جواره، قائلة :
    - لقد كان عظيماً هذه المرة، ولكنه غاضب بشدة؛ لأننى لم اخبره عن الخطة .
غمغم :
    - (قدرى) يمتلك قلباً من ذهب .
ثم توقف معها، متطلعاً إلى (قدرى)، الذى يجلس على مائدة الطعام، ونساء المزرعة يحطن به، ويضعن أمامه أطباقاً من الطعام الشهى، الذى يلتهمه فى نهم ، وابتسم ابتسامة كبيرة، وهو يضيف فى حنان:
سينسى .
وخفق قلبها فى قوة اكبر.
*            *            *
تمت بحمد الله
*************

- Copyright © رجل المستحيل أونلاين - Skyblue - Designed by Johanes Djogan - Privacy Policy -